تفسير قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)
قال عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٢٥].
ختمنا الكلام في الدرس الماضي بقوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٤]، ثم يقول تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)).
والفتنة إما بمعنى الذنب، وعلى هذا فقوله: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) يعني: اتقوا الذنب الذي تترتب عليه هذه العقوبة، والذنب يكون مثل إقرار المنكر، وافتراق الكلمة، والتكاسل في الجهاد.
وإما أن تكون الفتنة بمعنى العذاب، وعلى هذا فقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) أي: اتقوا العذاب.
فإن أريد بالفتنة الذنب فقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) يعني: اتقوا ذنباً أو معصية، وقوله: ((لا تُصِيبَنَّ)) أي: لا يصيبن أثره أي: العذاب، ((الذين ظلموا منكم خاصة)).
وإذا قلنا: إن الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: ١٤] يعني: عذابكم، فالمعنى: اتقوا إصابة العذاب بنفسه.
وقوله: ((لا تُصِيبَنَّ)) هذا جواب للأمر: ((وَاتَّقُوا))، أي: إن أصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم، لكن شؤمها يتعدى إلى الجميع، فتشمل الظالمين المذنبين وغيرهم؛ بشؤم صحبتهم؛ لأنهم عاشوا معهم، وخالطوهم، وتعدت رذيلتهم إلى من يخالطهم، فإن الأشرار والفساق يتعدى شؤمهم إلى من يساكنهم ويركن إليهم، فيصيبه شؤمهم بسبب مصاحبتهم، وذلك كقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: ٤١].
وقد روى الإمام أحمد عن جرير رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب).
قال الكرخي: ولا يستشكل هذا بقوله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فالواجب على كل من رآه أن يغيره إذا كان قادراً على ذلك، فإذا سكت الجميع فكلهم عصاة؛ هذا بفعله وهذا برضاه.
وقدر الله تعالى بحكمته أن الراضي بمنزلة العامل، فانتظما في العقوبة، ودخل فيها الراضي؛ لأن السكوت علامة الرضا، ولذلك فإن العذاب يعم الجميع، وهذا لا يتعارض مع قوله: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤]؛ لأنهم ما داموا قادرين على التغيير ولم يغيروا فإن سكوتهم يعني الموافقة والإقرار والرضا، فاستووا مع الذين عصوا.
فإنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، أما الإنكار باليد وباللسان فعلى التفصيل المعروف في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وليس بعد ذلك عذر لمعتذر، فالإنسان قد يكون للناس سلطان عليه بالقهر، فيمنعه ذلك من التغيير باليد أو باللسان، لكن لا سلطان لأحد على القلب، فإذا كان القلب لم ينكر المنكر فلا شك أن صاحبه راض بهذا المنكر وآثم بسبب ذلك.
فإذاً: علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل، لكن ما دام قلبك يستقبح المنكر ويكرهه ويبغض أهله فلا وزر عليك، وإن كنت عاجزاً عن تغييره باليد أو باللسان، المهم أن القلب يكون مطمئناً بالإيمان ومتألماً بسبب هذه المعاصي.
وذكر القسطلاني أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارهاً له إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن متألماً فهو راضٍ بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٢٥]، يعني: لمن يخالف أوامره.


الصفحة التالية
Icon