إعراض المسلمين عن الدين هو سبب حرمانهم من التمكين
هذا في هذه الناحية من نواحي النهضة المادية، وأما من ناحية أسباب التقدم والتمكين في الأرض فهي موجودة في أمة المسلمين، ولكننا مع هذه الكثرة غثاء كغثاء السيل؛ فمع هذه الكثرة توجد فينا آفات هي السبب في تخلفنا، وأعظمها على الإطلاق هو أننا نبذنا هذا الدين الذي هو سبب عزنا وراءنا ظهرياً، وليس نبذاً فحسب، بل نحن نحاربه، بل نحن ليل نهار نسلط أعداء الله من العلمانيين والزنادقة ليطفئوا نور الله عز وجل، ويشككوا الناس في الدين، ويلهوا الشباب بالشهوات وبالفتن والشبهات.
فبذنوبنا دامت بليتنا، والله يكشفها إذا تبنا، فالقرآن يدلنا على دائنا ويدلنا على دوائنا، فداؤنا راجع إلى أنفسنا، أما دواؤنا فهو في هذا القرآن، كما قال عز وجل: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء: ١٠]، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، ليس لأننا أحقر الأمم، فقد شرفنا الله بالإسلام؛ لكننا نبذنا هذا الإسلام، وطلبنا العزة في غيره.
فإذاً: هل من رفعه الله سبحانه وتعالى بالقرآن يستوي مع من لم يرفعه بالقرآن؟ فمن امتن الله عليه بالقرآن وباللغة العربية وبالإسلام وبالتوحيد ومع ذلك رفض النعمة، فلابد أن تكون عقوبته أشد، وتلك سنة الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، وقانون من قوانين الله سبحانه وتعالى في الكون، وسنة من سننه، وهي التي عبر عنها أمير المؤمنين بقوله: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
فهذا قانون، فكلما بحثنا عن العزة في غير الإسلام فلابد أن تكون العاقبة هي عاقبة الذل بكل ما تحويه كلمة الذل من معانٍ، فكلما أردنا أن نبتغي العزة في الاشتراكية وفي الرأسمالية والتبعية للغرب، أو في التطبيع مع اليهود؛ أذلنا الله! فما لم نعد إلى الإسلام فلن نحصد سوى الذل، وهذا أمر مقطوع به، وتؤيده النصوص الشرعية، وتؤيده الوقائع التاريخية الماضية والحاضرة، المستقبلة وإن شاء الله أيضاً، وذلك ما لم نعد إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً.
أي: أنهم كانوا في ضلال وذل وضياع في كل مجال من المجالات، ولم يرفع عنهم ذلك إلا بالإسلام، فبعد ما كانوا بهذه الصورة المذكورة في هذا الأثر عن قتادة أعزهم الله بالإسلام، وحققوا الإسلام، وانتصروا للإسلام، ورفعوا رايته، فمكنهم الله سبحانه وتعالى من أقوى إمبراطوريتين على ظهر الأرض في ذلك الوقت، وهما الروم وفارس، وفي أقل من نصف قرن امتدت الدولة الإسلامية من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، أي: ما بين الهند والصين شرقاً إلى المغرب غرباً، وهذا البطل الإسلامي الفاتح يقف على أقصى غرب ما كان يعرف بالعالم القديم وهي بلاد المغرب، ويخوض بفرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لغزوتها في سبيل الله تبارك وتعالى.
يقول قتادة: والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم؛ حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه؛ فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧]، فإذا شكرنا نعمة الله سبحانه وتعالى بإقامة الإسلام، وإقامة حدود الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى يعطينا ما أعطى من قبلنا من السابقين الأولين، وإذا كفرنا بهذه النعمة عدنا إلى تأثير البيئة الأولى، وعدنا إلى الذل والهوان والضياع.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعد ما حكى قول قتادة: أن الأمر في العرب: وهذا وإن كان كما ذكر قتادة، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآيات عليه تكلف لا يخفى، فالظاهر ما ذكرنا.
يعني: مع أن كلام قتادة حق، لكن الراجح هو أن الآية تختص بالمهاجرين الأولين، فقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦]، فحمل كلمة ((النَّاسُ)) على من عدا العرب من الأمم فيه تكلف، ولذلك فهو قول بعيد، والأقرب أن تحمل كلمة ((النَّاسُ)) على كفار مكة.
وقوله: ((فَآوَاكُمْ)) يعني: إلى المدينة، وهذا أقرب، ((وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)) في بدر، ((وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) بإباحة الغنائم لأول مرة، ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)).


الصفحة التالية
Icon