تفسير قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)
نهانا الله تعالى عن خيانة الله ورسوله، ثم حذرنا من فتنة الأموال والأولاد، ثم بشر من يحصن نفسه من هذه الفتنة، فقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: ٢٩].
قال المهايمي: أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه.
فالله عز وجل قال: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤]، ثم بعد ذلك قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ثم قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، ثم بشر من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه، فأنت إذا تركت الرشوة -مثلاً- أو تركت الشبهات، مع أنك تريد المال لتثميره ولحاجات أولادك، اتقاء لله وخوفاً من عذابه، فلا تظنن أن الله يضيعك، بل أبشر إذا نجحت في هذه الفتنة بما ذكره هنا: ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ))، يعني: بعدم الخيانة ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).
فلا تخافوا على أهل ولا مال ولا عرض كما خاف أبو لبابة، فإن من اتقاه تعالى لم يجترئ أحد على أهله وحوزته؛ لأنه يؤتى فرقاناً يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز؛ لأنك إذا حققت تقوى الله سبحانه وتعالى فإن نور التقوى يضيء على أركانك وعلى كيانك، بحيث ينزل الله عليك من المهابة ومن عزة الإيمان والتقوى ما يجعل أعداءك يحجمون عن أذيتك.
وقيل: إن معنى قوله: ((فُرْقَانًا)) أي: نصراً.
فعلى التفسير الأول يعطيك مهابة وإعزازاً تتميز به عن غيرك، فلا يجترئ أحد عليك أو على أهلك وولدك، وعلى التفسير الثاني يعطيك نصراً؛ ومن كان معه فرقان فإنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله، ومنه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الأنفال: ٤١]، يعني: يوم النصر.
وقيل: إن معنى قوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) يعني: بياناً وظهوراً يشهر أمركم، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم: بت أفعل كذا حتى طلع الفرقان.
يعني: حتى طلع الفجر.
وقيل: إن معنى قوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) أي: فصلاً بين الحق والباطل، ومخرجاً من الشبهات، على أن الفرقان هنا مخرج علمي، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: ٢٨].
ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا استغلقت عليه مسألة من مسائل الفقه يبادر إلى المساجد العتيقة، ويترب وجهه بالسجود لله سبحانه وتعالى ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني.
فيبادر إلى التقوى، وإلى التذلل، وإلى إرضاء الله سبحانه وتعالى، فيفتح الله عليه ما انغلق من المسائل، وكان أحياناً يكثر من الاستغفار، فيفتح الله عليه بإجابة هذه المسائل.
إذاً: هذا مخرج ليس إلا لأهل الإيمان، فأنت كلما ضاق عليك الأمر في تحقيق التقوى كوفئت في الجانب الآخر، بأن يجعل الله لك مخرجاً، كما قال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ [الطلاق: ٢]، وإذا لم يجعل لك مخرجاً فارجع وابحث؛ فأنت لم تتق الله، وعندك خلل هو السبب في عدم حصول المخرج؛ لأن وعد الله لا يخلف.
ولذلك نقول: إن هذه الآية هي الدليل الصحيح لهذا المعنى الذي ذكرنا، ويخطئ بعض الناس في الاستدلال لهذه المسألة بقوله تبارك وتعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، حيث يشيع الاستدلال على ألسنة كثير من الخطباء والناس على أن التقوى سبب في حصول العلم، وهي حقيقة صحيحة، فالتقوى سبب حصوله، لكن المناقشة هنا ليست في المدلول، فنحن متفقون على المدلول، وإنما المناقشة في الدليل، هل يدل على ذلك أم يدل على أمر آخر؟ فلو كانت هذه الآية: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢] كما يقولون لجزم الفعل (يعلمْكم) وحذف الواو، كما تقول: كل تسمنْ، ذاكر تنجحْ، اتق الله يعلمْك الله، فالفعل الذي يقع في جواب الأمر يكون مجزوماً.
لكن هذه الحقيقة نفسها ثابتة، فإن التقوى سبب من أسباب حصول البصيرة والعلم.
وليس دليلها قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وإنما دليلها قوله تعالى هنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾، أي: نوراً وبصيرة وعلماً تميزون به بين الحق والباطل، ولذلك كلما ازداد الإنسان في التقوى وفي العلم زال عنه الاشتباه في كثير في الأمور، وكلما زاد علم الإنسان نتيجة التقوى كلما كان عنده بصيرة وتسديد، فلا تختلط عليه الأشياء، فالحلال يكون واضحاً والحرام واضحاً، والشبهات كثيراً ما تكون بسبب الجهل، ولهذا من كان عنده علم فإن الأمور تتضح له اتضاحاً جلياً، فعنده فرقان يفرق به بين الحق والباطل، ولا تلتبس عليه الأمور، وإنما تلتبس على من قل حظه من العلم والبصيرة اللذين ينتجان عن التقوى.
وكذلك يدل على هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢ - ٣]؛ لأن المخرج لا يكون في المسائل المادية وفي قضية الرزق فقط، بل يكون أيضاً في المسائل العلمية في معرفة الشبه والبدع والضلالات والعقائد، وهذه الأشياء يجد الإنسان فيها مخرجاً بالنور الذي يهديه الله به إلى الحقائق في هذه المسائل.
فقوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) (فرقان) مصدر فرق، أي: فصل بين الشيئين، سواء كان بما يدركه البصر أو بما تدركه البصيرة، فالفرقان إما يتعلق بالبصر وإما بالبصيرة، فبالبصر كمعاينة النصر مثلاً أو النور، كما يقال: طلع الفرقان، أي طلع الفجر، أو الفرقان بمعنى: ما تدركه البصيرة وليس البصر، إلا أن الفرقان أبلغ من الفرق؛ لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وبين الحجة والشبهة.