تفسير قوله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)
ثم قال عز وجل: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
ذكَّر الله تعالى المؤمنين بنعمه عليهم عموماً بقوله تعالى: ((وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ))، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، فذكَّر نبيه ﷺ بنعمته عليه خاصة في حفظه من مكر قريش به؛ ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار، وأخذ نور الإسلام في الانتشار، فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار بناها قصي بن كلاب؛ ليصلح فيها بين قريش، ثم صارت لمشاورتهم، والندوة: هي الجماعة من القوم، وندى في مكان، أي: اجتمع فيه، ومنه النادي، يعني: مجتمع الناس.
المهم أنهم اجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم، فقال أبو البختري بن هشام: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، والمنون: الدهر، وريب المنون يعني: إلى أن يموت ويهلك، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: ((لِيُثْبِتُوكَ))، وقد استدل البعض على هذا بقوله تعالى في سورة الطور: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠].
فقوله: ((لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)) هذا حصل قبل الهجرة مباشرة، كما يدل عليه سياق هذه القصة، وسورة الطور مما نزل قبل ذلك، فلا يصح أبداً أن تكون الآية: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠]، مقصود بها ما جاء في هذه القصة، فهذا من أسباب ضعفها.
وقوله: ((لِيُثْبِتُوكَ)) يعني: ليحبسوك ويوثقوك؛ لأن كل من حبس شيئاً وربطه فقد جعله ثابتاً لا يقدر على الحركة.
ثم اعترض رأي أبي البختري شيخ نجدي دخل معهم، ففي بعض الروايات: أن شيخاً أتى عليه مهابة ووقار فزعم أنه شيخ نجدي، وهم لا يعرفونه، فحضر معهم هذه المشورة، فلما اقترح بعضهم هذا الاقتراح الأول -وهو أن يحبسوه ويوثقوه- اعترض هذا الشيخ النجدي الذي كان هو إبليس، -إذا صحت هذه الرواية- فقال: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم! أي: إذا حسبتموه فإن قبيلته لن تسكت، وسيأتون ويقاتلونكم ويخلصونه من أيديكم.
ثم قال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل، وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع.
أي: ينفونه، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: ((أَوْ يُخْرِجُوكَ))، يعني: من مكة، فاعترض هذا الشيخ النجدي، فقال: بئس الرأي، يفسد قوماً غيركم، ويقاتلكم بهم.
أي: إن أخرجتموه من بينكم ونفيتموه فسوف تنتشر دعوته في مكان آخر، فيتقوى بهؤلاء الذين يؤمنون به، ثم يعود إليكم فيهزمكم.
فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، وهذا ما ذكره تعالى بقوله: ((أَوْ يَقْتُلُوكَ)).
ثم قال النجدي اللعين: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن الله له بالهجرة، فأمر علياً فنام في مضجعه، وقال له: (اتشح ببردتي؛ فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه).
ثم خرج صلى الله عليه وسلم، وأخذ قبضة من تراب، فأخذ الله بأبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس: ١ - ٢] إلى قوله: ﴿فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩]، ومضى مع أبي بكر إلى الغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه، فرأوا علياً! فقالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاتبعوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه، فقالوا: لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر، فخيب الله سعيهم، وأبطل مكرهم، ثم مكث ﷺ فيه ثلاثاً، ثم خرج إلى المدينة.
وهذه القصة فيها كلام من حيث سندها، فموضوع العنكبوت والبيض والحمام وغير ذلك من الكلام المشهور ضعيف، والكلام في ضعف الحديث يصدم عواطف بعض الناس، ولكن ليس بأمانيكم، وإنما بحكم أهل الحديث وأهل الصنعة.
وقوله: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ)) أي: يدبر ما يبطل مكرهم.
وقوله: ((وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))، أي: أعظمهم تأثيراً، قاله المهايمي، وهو علي بن أحمد بن علي المهايمي ويقال المهائمي، توفي سنة (٨٣٥هـ) وهو رجل هندي، كنيته أبو الحسن علاء الدين، ويعرف بلقب: المخدوم؛ لأنه يكثر ذكره في تضاعيف التفسير، فلذلك نذكر عنه هذه الثغرة، وهو من النوائف، والنوائف: قوم في بلاد الدكن من الهند.
قال الطبري: هم طائفة من قريش خرجوا من المدينة خوفاً من الحجاج بن يوسف الثقفي، فبلغوا ساحل الهند، وسكنوا فيه.
وهو باحث مفسر، وللأسف الشديد كان يقول بوحدة الوجود! وولد وتوفي في الهند في مكان اسمه مهائم، وذلك نسب المهايمي أو المهائمي، وهي بلده مجاورة للبحر المحيط أو على حدوده، له مصنفات عربية نفيسة، منها: تفسير الرحمن، وتيسير المنان ببعض ما يشير إلى إعجاز القرآن في مجلدين، ولعله هو الذي يستقي منه القاسمي دائماً، وله كتب في شرح فصوص الحكم وغير ذلك، لكن للأسف الشديد والأمر المؤلم أنه كان يقول بوحدة الوجود.
يقول الله: ((وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))، هذه الآية تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقاناً يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهراً، يحفظه من مكر من مكر به، بل يمكر له على ماكره، قال سبحانه: ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))، ثم أشار في الآية التي تليها إلى أن لا تخش الناس؛ فمن مكر بك مكر الله به، وأبطل كيده الذي يكيدك به.