تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: ٣٣].
إذا تأملنا قوله تعالى في الآية الأولى: (ولو كره الكافرون) وقوله أيضاً في هذه الآية: (ولو كره المشركون) فنتذكر أن كراهية المشركين لدين لإسلام، وحرصهم على إبطاله هذا أمر متوقع أخبرنا الله به، فلا يمكن أبداً أن نطمع في رضاهم عن ديننا، وبعض الناس يزعمون أنهم يعملون عملية تحسين وتجميل في الإسلام كي يقبله هؤلاء المشركون أو هؤلاء الكافرون، وهذا لا يكون كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾
[البقرة: ١٢٠]، قبل الوصول إلى هذه الغاية فلن يرضوا عنا، فلا نطمع على الإطلاق؛ لأن هذا الأمر ليس بجديد عليهم؛ لأنهم يكرهون إعزاز دين الله سبحانه وتعالى، ودأبهم العدوان والشنآن كما هو معلوم من سيرتهم ومن أحوالهم.
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي: بالقرآن الذي هو هدى للمتقين.
(ودين الحق) الحق هو التوحيد الثابت الدائم الذي لا يزول.
(ليظهره) أي: يظهر الدين الحق.
(على الدين كله) أي: على سائر الأديان.
(ولو كره المشركون) أي: ولو كرهوا أن يكون ذلك، لكن الله قضى ولابد أن يقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: (إن الله زوى لي الأرض -أي: ضم لي الأرض- فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها).
وعن قبيصة بن مسعود أو مسعود بن قبيصة قال: (صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة).
وأخرج الإمام أحمد في المسند عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز وبذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وكان تميم الداري نصرانياً، وسبب إسلامه قصة الجساسة كما في صحيح مسلم، وكان يقول: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية).
وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها).
وأخرج الإمام أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله ﷺ فقال: يا عدي! أسلم تسلم، فقلت: إني من أهل دين، قال عليه الصلاة والسلام: يا عدي! أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟! قلت: بلى).
(الركوسية) قوم لهم دين متوسط بين النصارى والصابئين.
وقوله: (وأنت تأكل مرباع قومك) المرباع الربع مثل المعشار بمعنى العشر، وذلك أنهم كانوا يغزون في الجاهلية فيغنمون، فيأخذ الرئيس ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً له، فلذلك سمي ذلك الربع المرباع.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب -يعني: أهذا الذي يمنعك من دخول في الإسلام- تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده! لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله ﷺ قد قالها).
انظر إلى اليقين والتصديق؛ (لأن رسول الله ﷺ قد قالها) هكذا كان شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان أيضاً شأن الصديق الأكبر، لما أخبره المشركون عما حدث به النبي ﷺ عن الإسراء والمعراج، فقالوا له: (انظر ما يقول صاحبك يزعم أنه كذا وكذا، فقال: إن كان قد قالها فقد صدق صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التوبة: ٣٣] أن ذلك تام، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم).
قال بعض المفسرين: معنى الآية: ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها، وهو ألا يعبد الله إلا بدين الإسلام.
روي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بأن يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام، وكذلك قال الضحاك والسدي: لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام.
وقال الشافعي: قد أظهر الله دين رسوله ﷺ على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين، فقهر رسول الله ﷺ الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً، وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه.
قال: فهذا هو ظهوره على الدين كله؛ لأن النصارى وأهل الكتاب إذا أعطوا الجزية فهم في الحقيقة في حالة خضوع لدين الإسلام.
يقول القاسمي: ما ذكره الشافعي هو نوع من أنواع الظهور، والأدق ما تقدم من أنه سوف يعتنقه كل فرقة، فإنما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلاً.
وهذا فيه نظر في الحقيقة، ولا يصح أن نسمي هؤلاء الناس بطوائف الإصلاح، فأي شخص من طوائف الإصلاح أو من أي فرقة من هذه الفرق مادامت نصرانية فما يسمى مصلحاً، بل هو من المفسدين في الأرض، لكن هذا التعبير شاع في زمن القاسمي ربما تأثراً بالشيخ رشيد رضا ومحمد عبده باستعمالهم تعبيرات الإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي إلى غير ذلك من العبارات.


الصفحة التالية
Icon