أثر الكبر والعجب في سلب نعم الله
قوله: ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، أي: بما يوجب سلب النعمة وهو الكفر والعجب؛ لأنه تلبس بهاتين القبيحتين، كفره بالله ثم الغرور والكبر والعجب، أو ((وهو ظالم لنفسه)) ظلمه لها إما بمعنى تنقيصها وطلبها بتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك.
فهو يسيء إلى نفسه وينقصها ويضرها؛ لأنه يأخذ بالأسباب التي تستلزم زوال هذه النعمة وهلاك نفسه، أو (الظلم) بمعنى: وضع الشيء في غير موضعه؛ لأن مقتضى ما شاهده التواضع لله سبحانه وتعالى الذي رزقه هذه النعم لا العجب بها وظنها لا تبيد أبداً، والكفر بإنكار البعث كما يفيد قوله: ((قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ))، أي: تهلك وتفنى، ((هذه)) أي: الجنة، ((أبداً)) لاعتقاده أبدية الدهر، وألا كون سوى ما تقع عليه مشاعره، فلا يؤمن بالغيب، وإنما يعتقد أن الحياة الدنيا باقية إلى ما لا نهاية، ولذلك أردف قوله: ((مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)) بقوله: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، فهذا دليل كفره وتكذيبه بالغيب.
((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، أي: كائنة آتية، ((وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) إقساماً منه على أنه حتى وإن رد إلى ربه يوم القيامة -على التسليم بوقوعه- فكما أكرمني الله سبحانه وتعالى في الدنيا فلابد أن يكرمني في الآخرة، فهو يقول لصاحبه: حتى لو كان كلامك صحيحاً وأننا سنبعث وننشر ونرد إلى الله، لأجدن في الآخرة خيراً من جنتي هذه في الدنيا؛ تمنياً على الله، وادعاء لكرامته عليه، ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا باستحقاقه واستئهاله، وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه، وكما استحق ذلك في الدنيا فلابد أن يملك هذه الأهلية وهذا الاستحقاق للإكرام في الآخرة.
وهذا بلاك شك من ضعف عقله، كما قال تبارك وتعالى ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ [الفجر: ١٥] كما قال هذا، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾ [الفجر: ١٦]: امتحنه ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٦]، وليس الأمر كما تظنون، فليس كل من أعطيه وأكرمه أكون قد أكرمته بالفعل، وليس كل من امتحنته وابتليته أكون قد أهنته؛ لكن أبتلي هذا بالنعم لأنظر أيشكر أم يكفر؟ وأبتلي هذا بالنقم لأنظر أيصبر أم يجزع؟ فهذه ألوان متعددة من العبودية لله سبحانه وتعالى، فهذا ظن أنه نال هذه الأشياء عن جدارة، وأن له أهلية واستحقاقاً لنعمة الله دنيا وأخرى.
قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [فصلت: ٥٠]، ومثل هذا من يسيطر عليه تصور كيف أن أمريكا والأمريكان وأهل الغرب الآن في تقلبهم في البلاد واغترارهم بالدنيا وزخرفها، وتعاليهم في البنيان، واهتمامهم بزخرفة الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ [يونس: ٢٤]، فأصبحوا في حالة اغترار يفوق الوصف بما هم عليه من التقلب في البلاد، ومن إملاء الله عز وجل لهم، ومن ابتلائهم بالنعم وهم يزدادون في العتو والكفران.
وقول الله عن الكافر أيضاً: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم: ٧٧ - ٧٨].
وقوله: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا﴾ [الكهف: ٣٦]، أي: مرجعاً وعاقبة، فكفر بالقول بقدم العالم، ((ما أظن أن تبيد هذه أبداً))، كذلك كان ينفي حشر الأجساد، ((وما أظن الساعة قائمة)) وهذا أيضاً كفر، واعتقد عكس الجزاء لما قال: ((لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته، وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة، وكأنه ينسب إلى الله سبحانه أنه غير قادر على البعث والنشور، والقول بعكس الجزاء ينفي الحكمة الإلهية، ومع ذلك فهو ينتظر أن يثاب على الكفر بما هو الأحسن والحسنى وبما هو أفضل وأعظم، فهذا بلا شك أيضاً ينافي حكمة الله سبحانه وتعالى لأن الجزاء من جنس العمل، فكيف يكفر بالله بهذه الصورة وينتظر أن يثاب على كفره في الآخرة؟! فهذا عكس الجزاء، وهو ينافي الحكمة الإلهية.