تفسير قوله تعالى: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)
قال تعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤]، هذا من خطاب الله لموسى وهارون عليهما السلام، والمعنى: لعله يخشى عقابي؛ فإن تزيين القول مما يكسر ثغرة عناد العتاة ويلين عريكة الطغاة، وقد بين الله ذلك في قوله تعالى: ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: ١٨ - ١٩]، وهذا من مظاهر تلطف موسى بفرعون: ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ [النازعات: ١٨]، تلطف في العبارة: (هل لك)، ولم يقل: تعال كي أزكيك، وإنما نسب التزكية إلى نفسه هو: (إلى أن تزكى)، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت.
﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: ١٩].
وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥].
وقوله تبارك وتعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤]، الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله، فإنه لا يصح منه، ولذا قال القاضي أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب بعدكما، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن: إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما في تضاعيف ذلك من الآيات.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤]: أمر الله جل وعلا نبييه موسى وهارون عليهما السلام أن يقولا لفرعون في حال تبيين رسالات الله إليه: (قولاً ليناً) أي: كلاماً لطيفاً سهلاً رقيقاً ليس فيه ما يغضب وينفر، وقد بين جل وعلا المراد بالقول البين في هذه الآية بقوله: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: ١٧ - ١٩]، وهذا -والله- غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى.
وقد كانت عادة قدماء المصريين عموماً -للأسف الشديد- عبادة ملوكهم ومن يلي أمرهم، واتخاذهم آلهة، إلى حد أن الشعب كأنه لا قيمة له ولا وزن، كذلك نلاحظ خلاف من كان قبلهم من الأمم يقول الله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف: ٧٣]، ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: ٦٥]، يتكلم عن القبيلة كلها، أو الأمة بمجموعها.
أما موسى فكثير من الآيات تخبر أن الله أرسله إلى فرعون، كما قال هنا: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: ٤٣]، وقال أيضاً: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [النازعات: ١٧]، وإذا ذكر شعبه معه فعلى سبيل التبعية له، لذا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى التعبير بهذا التعبير: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ [النازعات: ١٧].
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: يؤخذ من الآية الكريمة: أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرق واللين لا بالقسوة والشدة والعنف، كما قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥].
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال يزيد الرقاشي عند قوله: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)): يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ فانظر إلى لطف الله سبحانه وتعالى، وتحببه إلى عدوه الطاغي الذي قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، ومع ذلك انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى من رحمته ولطفه به يحرض نبييه الكريمين عليهما السلام أن يقولا له قولا ليناً؛ لأن الهدف هو انقياده إلى الحق؛ فلذلك كان يقول يزيد الرقاشي عندما يتلو هذه الآية: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ كيف بالمؤمن الذي يتولى الله ويناديه ويناجيه ويسأله الهداية والتوفيق؟! ولقد صدق الله من قال: ولو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكاً وزورا أناب إلى الله مستغفراً لما وجد الله إلا غفورا قوله تعالى: ((لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) يقول: قد قدمنا قول بعض العلماء: إن (لعل) في القرآن بمعنى التعليل، إلا التي في سورة الشعراء: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٩]، فهي بمعنى: كأنكم، وقد قدمنا أيضاً: أن لعل تأتي في العربية للتعليل، ومنه قوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق وهذا مثل واقع المسلمين الآن مع اليهود لعنهم الله، وقوله: (لعلنا نكف) يعني: لأجل أن نكف.
فأحياناً كلمة (لعل) في القرآن الكريم تستعمل للتعليل، بمعنى لكي أو لأجل، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣] يعني: لأجل أن تتقوا، فإن الصيام وسيلة إلى التقوى، وهذا خلاف الكلام الذي ذكره القاسمي رحمه الله تعالى؛ لأن القاسمي لما جعلها على بابها؛ أي: أن لعل للترجي، قال: إن الرجاء هنا صادر عن موسى وهارون، أما الشنقيطي رحمه الله تعالى فيقول: إن لعل في القرآن تأتي أحياناً بمعنى التعليل، إلا في سورة الشعراء: ((وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ))، فإن معناها: كأنكم تخلدون.
وقال بعض أهل العلم: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى))، معناه: على رجائكما وطمعكما، فالترجي والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر، وعزى القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كـ سيبويه وغيره.


الصفحة التالية
Icon