تفسير قوله تعالى: (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى)
قال تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: ٧٦] أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.
ثم ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض اللطائف فيقول: اللطيفة الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ [طه: ٦٥] استعمال أدب حسن معه، فهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، وفيه أيضاً تواضع له وخفض جناح، وربما ببركة هذا الأدب مع موسى هداهم الله سبحانه وشرح قلوبهم للإيمان، فتأدبوا معه مع ما كان تقتضيه الخصومة والمواجهة.
وفيه تنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلَّم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا﴾، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب حينما قال: ((بَلْ أَلْقُوا))، حتى يخرجوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفذوا أقصى مجهودهم، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وقذف المعجزة على السحر فمحقه، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين، وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: ﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ﴾ [طه: ٥٨]، ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى ها هنا أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون إلقاؤه العصا قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رءوس الأشهاد، فيكون أفضح بكيدهم، وأهتك لستر حرمهم.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: ((مَا فِي يَمِينِكَ))، ما الحكمة من أن اللفظ الكريم آثر: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ [طه: ٦٩]، ولم يقل: وألق عصاك تلقف ما صنعوا؟ المشهور قولان: القول الأول: أن هذا لتعظيم العصا.
القول الثاني: أن هذا لتحقير العصا.
الوجه الأول: أن يكون تعظيماً لها، والإبهام وهو يستعمل أحياناً للتعظيم أو للتحقيق، فالاحتمال الأول: أنه أريد بذلك تعظيم العصا ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ يعني: العصا العظيمة التي في يمينك، أي: لا تبالي بهذه الأجرام الكبيرة، وهذه العصي التي ألقوها وهي كثيرة وكبيرة، فإن ما في يمينك شيء أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فألق ما في يمينك يتلقفها بإذن الله ويمحقها.
الوجه الثاني: أن يكون تصغيراً لها: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ يعني: ألق هذا الشيء الحقير الذي في يمينك، وهو عصا صغيرة هي فرع من شجرة، أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق الشيء الصغير الذي في يمينك؛ فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة تحقير كيد السحرة بطريق الأولى، فتحقير العصا على هذا الوجه ليس تحقيراً لآيات الله سبحانه وتعالى، بل المقصود من ذلك تحقير كيد السحرة، فهذه العصا الهينة الصغيرة أبطلت هذا السحر العظيم الذي أتوا به؛ لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى؛ فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ففي الحقيقة يئول الأمر إلى تحقير السحر الذي أتوا به، وأنه سحر حقير إلى حد أن مثل هذه العصا الضئيلة بقدرة الله تلقفته وأبطلت كيدهم وسحرهم! ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، فقد كان علماء البلاغة والذين يتذوقون البلاغة حق التذوق لهم أساليب، فإذا أرادوا أن يمدحوا أنفسهم بعد الانتصار على العدو وجيشه فيظل يمدح أحدهم هذا الجيش وهو في الحقيقة يمدح نفسه أو يمدح جيشه، فإن كان هذا الجيش بهذه القوة وبهذه الإمكانات والعدة والعتاد، وفيه الشجعان وكذا وكذا، ثم هزم أمام جيشنا؛ فإن هذا يتضمن مدح جيشنا في الحقيقة، فهذا أسلوب من أساليب العرب.
يقول: ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ويلزم من ذلك تعظيم شيء ممدوح قهره واستولى عليه، فكسر الله أمر العصا ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين، فدحض السحرة بالعصا الصغيرة التي ذكرها الله هنا بقوله: ((مَا فِي يَمِينِكَ)) يعني: كأنه شيء ما يستحق أن يذكر لصغره، لكن مع صغرها دحضت سحرهم وأبطلته في طرفة عين، فكيف بكيد السحرة أنفسهم؟ لا شك أنه أحقر، لأنه هو الذي هزم.
واعلم أنه لابد من نكتة تناسب الأمرين: التعظيم والتحقير، وتلك -والله تعالى أعلم- هي إرادة المذكور مبهماً؛ لأن ما في يمينك أبهم من عصاك، وللعرب مذهب في التنكير والإبهام والإجمال تسلكه مرة في تحقير شأن ما أخذته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يذكره ويوضحه، ومرة لتعظيم شأنه، وليوهم أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، فيكفي فيه الرمز والإشارة، فهذا هو الوجه المناسب لهما جميعاً.
ثم قال الناصر: وعندي في الآيات وجه سوى قصد التعظيم والتحقير والله تعالى أعلم، وهو: أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا من الله تبارك وتعالى آية، وذلك عندما سأله عنها، وقد قال الله تعالى له في أول موقف علم فيه موسى أن العصا آية من آيات الله التي يؤيده بها: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: ١٧] ثم أظهر الله له تعالى آيتها.
فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ يذكره بكلمة (يمينك)، ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ﴾ [طه: ١٧]، وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها، وذلك مقام يناسب التثبيت والتأنيس، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ [طه: ٦٧ - ٦٩] إذاً: هذا تأنيس لموسى وإذهاب للوحشة والخوف منه، حيث يذكره بكلمة: (بيمينك)، فإنه قيل له ذلك من قبل ثم ظهر له أنها آية.
ولـ أبي حيان نكتة أخرى، وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة، فاليمين مرتبطة دائماً باليُمن والبركة.