تفسير قوله تعالى: (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)
قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: ٦٦].
هذا يدل على نوع السحر الذي جاء به سحرة فرعون، وأنه سحر تخييلي وليس سحراً حقيقياً، فقد سحروا أعين الناس؛ لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي، وإما أن يؤثر في المرئي، فالسحر قد يحصل في العين نفسها، فالعين ترى حصول الشيء وهو لم يحصل، أو ربما يحصل في الشيء الذي هو مرئي.
قال الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون كان سحر تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر، وهذا الذي دلت عليه آية طه هذه، دلت عليه آية الأعراف، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦]، وهذا يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمراً لا حقيقة له، وبهاتين الآيتين احتجت المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له، فالمعتزلة ينكرون حقيقة السحر.
والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تبارك وتعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ [البقرة: ١٠٢]، فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً بالتفريق بين الرجل وامرأته، وقد عبر الله عنه بما الموصولة، وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي، ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: ٤] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن، فلولا أن السحر له حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه.
إذاً: لا يوجد تعارض بين الآيات التي تدل على أن السحر له حقيقة، وبين الآيات الدالة على أنه خيال، بل يجمع بينهما بأن من السحر ما هو تخييل كما أخبر عن سحرة فرعون، ومنه ما هو حقيقة كما ذكرنا.
فإن قيل: قوله في طه: ((يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ))، وقوله في الأعراف: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦]، الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له، يعارضهما قوله في الأعراف: ﴿وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ١١٦]؛ لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال، فالذي يظهر في الجواب -والله تعالى أعلم- أنهم أخذوا كثيراً من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى، وهي كثيرة، فظن الناظرون أن الأرض ملئت بحيات تسعى؛ لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي، فخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظمة، وهذا ظاهر لا إشكال فيه.
وقد قال غير واحد: إنهم جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال والعصي، فخيل للناظرين أنها تسعى.
وعن ابن عباس: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً، مع كل ساحر منهم حبال وعصي، وقيل: كانوا أربعمائة، وقيل: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل: أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفاً، وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له: شمعون، وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيباً، مع كل نقيب عشرون عريفاً، مع كل عريف ألف ساحر، وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف، وكان رئيسهم أعمى.
وهذه الأقوال كلها من الإسرائيليات، ونحن نتجنبها دائماً، ونقلل من ذكرها، وربما ذكرنا قليلاً منها منبهين عليه.