تفسير قوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى)
تكلم الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: ٦٩]، ببحث طويل كثير النفع في حوالى اثنتين وثلاثين صفحة، ونحن سوف نمر على رءوس الكلام بحيث يعلم عموم معنى كلامه، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتابه المبارك (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
قوله: ((لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)) هذه الصيغة للعموم؛ لأن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم كما هنا: ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ فهو أيضاً من صيغ العموم.
قال الشنقيطي: فقوله تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ)) نفي يعم جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله: ((حَيْثُ أَتَى))، وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران: الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: ١٠٢].
فقوله تعالى: ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)) يدل على أنه لو كان ساحراً -وحاشاه من ذلك- لكان كافراً.
وقوله: ((وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)) صريح في كفر معلم السحر، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقرراً له: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢]-يعني: ((فَلا تَكْفُرْ)) بتعلم السحر- وقوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠٢].
فقوله تعالى: ((وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) أي: من نصيب، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذاً بالله تعالى، وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح، وذلك مما لا شك فيه.
الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن الكريم أن الغالب فيه أن لفظة: (لا يفلح) يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة يونس: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا﴾ [يونس: ٦٨] يعني: ما عندكم دليل على هذا ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: ٦٨ - ٧٠].
فهذا يدل على أن نفي الفلاح كان عن الكافر.
وقوله تعالى في سورة يونس أيضاً: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: ١٧]، فنفى الفلاح عن الكافرين أيضاً.
وقال في الأنعام: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٢١].
ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة: أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة والكفرة فإنه ينال الفلاح، وهو كذلك، فالذي ينال الفلاح هو المؤمن الذي يتجنب هذه الأفعال وهذه الصفات التي اتصف بها السحرة والكافرون، كقوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥]، وقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: ١]، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ)) مضارع أفلح بمعنى: نال الفلاح، والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب، ومنه قول لبيد: فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل فقوله: (ولقد أفلح من كان عقل) يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر المطلوب.
ويطلق الفلاح أيضاً على البقاء والدوام في النعيم، ومنه قول لبيد: لو أن حياً مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح فقوله: (مدرك الفلاح) يعني: البقاء، وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم: (حي على الفلاح) في الأذان والإقامة، فحي على الفلاح تحتمل معنيين: إما الفوز بالمطلوب، أي: هلموا إلى الصلاة لتفوزوا بمطلوبكم، أو البقاء والدوام لنعيم الجنة.
((حَيْثُ أَتَى)) حيث كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان، وربما ضمّنت معنى الشرط، وقوله تعالى: ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ أي: حيث توجه وسلك.


الصفحة التالية
Icon