تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)
قال تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ [طه: ٧١]، لما آمن السحرة بالله عز وجل قال لهم فرعون منكراً عليهم: ((آمَنْتُمْ لَهُ)) أي: صدقتموه بأنه نبي مرسل من الله وآمنتم له قبل أن آذن لكم؟ يعني: أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم؛ لأنه يزعم أنه لا يحق لهم أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذنه لهم.
فانظر إلى الأعجب من ذلك! فرعون بعدما كان يمني السحرة ويعدهم، ويقول لهم: ﴿وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: ٤٢]، ويكون لكم الحظ، فإذا به يتهم موسى عليه السلام بأنه كبير السحرة، وبأنه أستاذهم الذي علمهم السحر، ثم هددهم مقسماً على أنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلاً، وهذا أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة؛ لأن قطعهما من جهة واحدة يبقى معه شق كامل صحيح بخلاف قطعهما من خلاف، فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم، وكذلك يصلبهم في جذوع النخل، وجذع النخل هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من الجذوع كما هو معروف.
وقد بين هذا قوله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الشعراء: ٤٩]، وقال تعالى في سورة الأعراف: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٣ - ١٢٤]، فقوله هنا في سورة طه: ﴿وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١]، هو المراد بقوله: ((لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)).
يعني: آية الأعراف بينت آية طه.
وقوله: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾ [طه: ٧١].
((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا))، أنا أم رب موسى ((أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)).
إذاً: فرعون كان يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله، وهذا أيضاً كقوله: ﴿قال أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، وقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، وقوله: ﴿لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: ٢٩].
وقال بعضهم: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا)) يعني: أنا أم موسى أشد عذاباً وأبقى، وعلى هذا فهو يتهكم بموسى؛ لأن موسى يعتقد أنه قطعاً لن يكون أقوى منه، وأنه ضعيف بالنسبة إليه، فهذا التهكم بموسى عليه السلام لاستضعافه له، وأنه يقدر على أن يعذب من لم يطعه، كقوله: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢]، والله جل وعلا أعلم.
قال الشنقيطي: واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل فيهم فرعون ما توعدهم به أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم، وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندي أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لموسى وهارون: ﴿أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ [القصص: ٣٥]، والعلم عند الله تعالى.
إذاً: هذا هو الشيء الوحيد الذي استند إليه العلامة الشنقيطي في هذا الترجيح؛ لأن الله قال: ﴿أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ [القصص: ٣٥]، فعموماً هذا الوعد من الله عز وجل يقتضي أنهم غالبون، وأن فرعون لن يقتلهم ولن يصلبهم كما توعدهم.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)) أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا؛ فألقي السحرة سجداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية و ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)) فقال فرعون: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ﴾ [طه: ٧١] أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك، ﴿فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ [طه: ٧١] أي: من جانبين متخالفين، ﴿وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: ٧١] أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾ [طه: ٧١] يعني: أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه أو من تخليده في العذاب ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾ فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايمي: وضعفه الزمخشري؛ لأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: ((آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)) أي: لموسى، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى.
إذاً: قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾، فيها قولان: القول الأول: أنا أم رب هارون وموسى ((أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)).
القول الثاني: ((َلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا)) أنا أم موسى ((أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى))، والراجح القول الثاني لقوله: ((قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ))، يقول: إن اللام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغير الله تعالى، يعني إذا استقرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن فعل الإيمان حينما يتعدى باللام يكون في حق غير الله عز وجل، كما في قول إخوة يوسف: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: ١٧]، وكذلك هنا: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ [الشعراء: ٤٩] يعني: صدقتم موسى عليه السلام، وقال تبارك وتعالى في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٦١]؛ فمع الله عداها بالباء، أما مع المؤمنين فقال: ((يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)).
إذاً: تعدي فعل الإيمان باللام يكون في حق غير الله تعالى، فهذا الوجه هو الذي رجح به كون قول فرعون: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾، المقصود به: أنا أم موسى؛ لأن في السياق قبله مباشرة: ((آمَنْتُمْ لَهُ)) أي: بموسى عليه السلام، وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع المسلمين؛ لأن موسى ما عذب أحداً ولا هدد أحداً بالتعذيب، فهو يريد أن يتهكم بموسى.


الصفحة التالية
Icon