تفسير قوله تعالى: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا)
قال تعالى: ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: ٧٣].
ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة أن فرعون لعنه الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا قالوا له: ((إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا))، يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر وغيره من المعاصي ((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) أي: ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وهذا الذي ذكره عنهم أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الشعراء عنهم: ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٥٠ - ٥١]، وقال عنهم في الأعراف: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٦].
وفي آية طه هذه سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم: ((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) يدل على أنه أكرههم عليه مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في طه: ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى﴾ [طه: ٦٢ - ٦٤]، فقولهم: ((فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً)) صريح في أنهم غير مكرهين، وكذلك قوله عنهم في الشعراء حينما قالوا لفرعون: ﴿أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: ٤١ - ٤٢].
سبحان الله! هؤلاء فعلوا ما فعلوا تقرباً إلى فرعون لينالوا القربة والزلفى من فرعون على ما هو عليه، قالوا لفرعون: ((أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً)) مكافآت وجوائز ((إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)) ﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾.
وقوله في الأعراف: ﴿قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الأعراف: ١١٣ - ١١٤].
إذاً: هذه الآيات تدل على أنهم كانوا غير مكرهين، فما الجواب عن هذا الإكراه المذكور في آية طه؟ قال: للعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة: منها: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم.
يعني هو أكرههم على القدوم والحضور من كافة البلاد في مصر كي يحضروا هذه المواجهة، قال: فهو أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر، وطواعهم نسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة، وبذلك ينتفي التعارض، ويدل لهذا قوله: ﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ [الشعراء: ٣٦]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ [الأعراف: ١١١] يعني: كأن هناك قواتاً معينة ستذهب وتحضر السحرة، وتجندهم لكي ينفذوا أمر فرعون، فهذا دليل على أنهم لم يأتوا طوعاً، وإنما أرسل إليهم من يجتذبهم ويحضرهم إلى هذا الموعد.
جواب آخر: قالوا: إنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر، ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين.
((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) يعني: أكرهتنا صغاراً، ثم تعلموا وتخرجوا بالسحر وبعد ذلك كانوا يمارسونه.
جواب آخر: أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائماً، ففعل فوجدوا أن عصاه تحرسه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر؛ لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه، وألزمهم بذلك، فلما لم يجدوا بداً من ذلك فعلوه طائعين، وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
إذاً: أظهر هذه الأجوبة هو الجواب الأول: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أجبروا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم هو بالنسبة إلى أول الأمر، وبالنسبة إلى آخر الأمر تنفك الجهة، وبذلك انتفى التعارض، ويدل لهذا قوله: ﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ [الشعراء: ٣٦]، وقوله: ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ [الأعراف: ١١١].
وظاهر قوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أن المعنى: والله خير من فرعون وأبقى منه؛ لأنه باق لا يزول، ولا يذل ولا يموت ولا يعدم كما يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً﴾ [النحل: ٥٢] أي: دائماً لا ينقطع أبداً، وغيره من الملوك يذهب عنهم ملكه، إما أن يذهب هو عن ملكه، أو يذهب الملك عنه، وآيات الله كثيرة في ذلك.
والله جل وعلا لا يزول ملكه أبداً، أما غيره من الملوك فإما أن يزول هو عن الملك أو يزول عنه الملك، وأكثر المفسرين على أن معنى قوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) يعني: أن ثوابه خير مما وعدهم به فرعون في قوله ﴿قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الأعراف: ١١٣ - ١١٤]، فردوا على هذا بقولهم: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) وأبقى أي: أدوم؛ لأن ما وعدهم به فرعون زائل، وثواب الله باق، كما قال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: ٩٦]، وقال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: ١٦ - ١٧].
وفسر بعض العلماء قوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) خير ثواباً، وأبقى عذاباً من عذابك وأدوم منه؛ فهو الأجدر بأن نخافه، ونشفق منه، ونفر منه، وعليه فهو رد لقول فرعون: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾، ومعنى أبقى: أكثر بقاء.