تفسير قوله تعالى: (ألا تتبعن أفعصيت أمري)
قوله تعالى قال ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ [طه: ٩٢ - ٩٣] قال بعض أهل العلم (لا) في قوله: (أن لا تتبعني) زائدة للتوكيد، المقصود: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن تتبعني، لكنا هنا المراد به التوبيخ، ومثله قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢]، قالوا: لأن المراد ما منعك أن تسجد إذ أمرتك بدليل قوله في القصة بعينها في سورة ص: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، فحذف لفظة: (لا) في سورة ص مع ثبوتها في الأعراف، والمعنى واحد، فدل ذلك على أنها مزيدة للتوكيد.
قال مقيده عفا الله عنه: قد عرف في اللغة العربية: أن زيادة لفظة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة.
يعني: بعض الناس لا يفهمون أن في اللفظ الفلاني حروف مزيدة، والبعض يستغرب كيف يكون في الآية لفظ مزيد، وهذا يجري على لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم.
قال الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: (لا) في قوله: (ألا تتبعن) زائدة للتوكيد، واستدل من قال ذلك بقوله تعالى في الأعراف: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]؛ لأن المراد: ما منعك أن تسجد إذا أمرتك، بدليل قوله في القصة بعينها في سورة ص: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، وقوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الحديد: ٢٩] أي: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وقوله تبارك وتعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: ٦٥] أي: فوربك لا يؤمنون، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت: ٣٤] أي: والسيئة، وقوله: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] يعني: أنهم يرجعون، فهل من أهلك يعود إلى الحياة؟ لا، فقوله: ﴿وَحَرَامٌ﴾ هذا تحريم كوني قدري على أحد القولين، وقوله: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٩]، فالمقصود: أنها إذا جاءت يؤمنون، كذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا﴾ [الأنعام: ١٥١] على أحد القولين: أن تشركوا بالله، فهذا هو التفسير، لكن في القرآن: ((أَلَّا تُشْرِكُوا)).
قال: ونظير ذلك في كلام العرب قول امرئ القيس: فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر يعني: فوأبيك، وقول أبي النجم: فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا يعني: لا ألوم البيض أن تسخرا، وقول الآخر: ما كان يرضي رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر يعني: وعمر.
وقول الآخر: وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع ذائب غير غافل يعني: أن أحبه، و (لا) مزيدة في جميع الأبيات لتوكيد الجحد فيها.
وقال الفراء: إنها لا تزاد إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، كالأمثلة المتقدمة، والمراد بالجحد: النفي وما يشبهه، كالمنع في قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]، فالمنع في حد ذاته في معنى الجحد.
يقول الشنقيطي: والذي يظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن زيادة لفظة: (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره، وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) قول ساعدة الهذلي: أفعنك لا برق كان وميضة غاب تمسنه ضراب مثقب ويروى: (أفمنك) بدل (أفعنك) يعني: أعنك برق، و (لا) زائدة للتوكيد، والكلام ليس فيه معنى الجحد، ونظيره قوله الآخر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع يعني: وكاد صميم القلب يتقطع، مع أنه ليس فيها معنى الجحد.
ومثل هذا قوله تعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: ١] فالمعنى: أقسم بهذا البلد، و ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: ١] المقصود: أقسم بيوم القيامة.
قال الشنقيطي: قوله تعالى: ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)) الظاهر أن أمره المذكور في هذه الآية هو المذكور في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر الوجوب؛ لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣].
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦]، فجعل أمره وأمر رسوله ﷺ مانعاً من الاختيار موجباً للامتثال، وقال تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢]، فيدل على أن الأمر ظاهره الوجوب، يعني: الأصل في أي صيغة أمر أنها تحمل على الوجوب، ولا تصرف عن الوجوب إلى الاستحباب أو غيره إلا بقرينة، قال في مراقي السعود: وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب وافعل: يعني: صيغة افعل صيغة الأمر.