تفسير قوله تعالى: (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك)
قال تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٥].
((قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ)) أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة، ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ)) يعني: اليهودي الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً لما طالت عليهم غيبة موسى، ويئسوا من رجوعه، والسامري في لغة العرب بمعنى اليهودي، وقد قال بالظن من ادعى تسميته أو حاول تعيينه، فلا يسأل أحد: من هو هذا السامري؟ فلم يصح شيء في تسمية السامري، لكنه رجل من اليهود، وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جل عاداتها.
((قَالَ فَإِنَّا)) خبر ((قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، والآية إخبار من الله سبحانه وتعالى لموسى بوقوع قومه في الفتنة، لكن في الحقيقة يراد بهذا الخبر الأمر برجوعه لقومه وإصلاح ما فسد؛ فكأن المعنى: فارجع إليهم يا موسى وأصلح ما فسد من حالهم، وذلك جاء في قوله: ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ [طه: ٨٦]، رجع لأنه فهم من هذا الخبر أنه أمر بالرجوع إليهم لإصلاح ما فسد من أحوالهم.
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ أي: حزيناً ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾ [طه: ٨٦] أي: بإنزال التوراة عليه ورجوعه بها إليهم، ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ﴾ [طه: ٨٦]، أفطال عليكم زمان الإنجاء، ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي))، أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات.
يقول الشنقيطي: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ﴾، كلمة الفتنة في اللغة تأتي بمعان كثيرة منها: الاختبار، والعذاب، والإضلال، والمقصود بها هنا فتنة الإضلال؛ لأنه قال: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، فالظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل فهي فتنة إضلال، كقوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأعراف: ١٥٥]، فهذه الفتنة في عبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة، كقوله تعالى: ﴿ووَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١].
فقوله عز وجل هنا: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع، كقوله: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ﴾ [الأعراف: ١٤٨]، إلى قوله: ((اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)) أي: اتخذوه إلهاً، وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته، وقوله هنا: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٧]، يشرح معنى: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أي: كيف أضلهم! قال موسى في الآيات: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨].
والسامري قيل: اسمه هارون، وقيل: اسمه موسى بن ظفر، وعن ابن عباس: أنه من قوم كانوا يعبدون البقر، وقيل: كان رجلاً من القبط، وكان جاراً لموسى آمن به وخرج معه، وقيل: كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة، وهم معروفون بالشام، قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان.
والفتنة أصلها في اللغة وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف، وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة، منها: الوضع في النار، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: ١٣] أي: يحرقون بها، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [البروج: ١٠] يعني: الذين أحرقوهم بنار الأخدود.
ومنها: الاختبار، وهو الأغلب في استعمال الفتنة، كقوله تعالى: ﴿أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٢٨]، وقوله: ﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [الجن: ١٦ - ١٧].
ومنها: نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك، كقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣]، وقوله هنا: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)) أي: أضللناهم.
ومنها أيضاً الحجة، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] أي: لم تكن حجتهم.
فقوله عز وجل هنا: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أسند إضلالهم إلى السامري؛ لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورمى عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل؛ فجعله الله بسبب ذلك عجلاً جسداً له خوار، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة: ((فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)) * ((فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ))، وقال في الأعراف: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ﴾ [الأعراف: ١٤٨]، والخوار: صوت البقر، قال بعض العلماء: جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسداً من لحم ودم، وهذا هو ظاهر قوله: ﴿عِجْلاً جَسَداً﴾ [الأعراف: ١٤٨].
وقال بعض العلماء: لم تكن تلك الصورة لحماً ولا دماً، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل، فهو صنع العجل على هيئة فيها تجويف تدخل منها الريح وتخرج، فإذا دخلت من مكان تخرج من الناحية الأخرى مصدرة صوت العجل، وهو خوار العجل.
قال: والأول أقرب لظاهر الآية؛ فهم فتنوا بأن حولت لهم صورة العجل إلى عجل حقيقي بلحم ودم، فالله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحماً ودماً كما جعل آدم لحماً ودماً وكان طيناً، لكن ترجيح مثل هذا يحتاج إلى دليل إلا أن يقال: إن الدليل هو قوله: (جسداً)، والله تعالى أعلم.


الصفحة التالية
Icon