(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ) الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات. وقوله: (الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة وفرقانها، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك، وقد اختارك موضع رسالته، وأداء أمانته، و (اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...). وهو أعلم بشأن الكتاب وما جاء فيه، وتلقي الناس له، ومقدار إدراكهم لما فيه، وقد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين؛ أحدهما: يدركه كل الناس، والثاني: فوق مستوى عامة الناس، ولذا قال بعد ذلك: (مِنْهُ آيَات مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له: محكم، ومتشابه؛ ولقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ...).
أي أنها نزلت حكمة لَا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه متشابه؛ فقد قال تعالى: (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقلُوبُهمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...)، ومعنى التشابه هنا هو أنه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره، وتآخي معانيه، وإحكام نسقه، وفصاحة ألفاظه، وقوة تأثيره بألْفَاظه ومعانيه، فهو في هذا متشابه، أي يشبه بعضه بعضاً.
وفى هذه الآية التي نتكلم في معانيها وُصف القرآن بأن منه آيات محكمات، وأخر متشابهات، فلا شك أن معنى مُحكم هنا غير معناها في قوله تعالى: (كتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ...) ومتشابه غير معناها في قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أً حْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ...) وإن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم ومتشابه في أصل معناها اللغوي. وهذا ما جاء في كتب اللغة: العرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ومنعت، والحاكم يمنع الظالم من الظلم، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب.
وروى إبراهيم النخعي: أَحْكِمْ اليتيمَ كما تُحْكِمْ ولدك. أي امنعه عن الفساد.