وقال ابن جرير الطبري: أحْكموا سفهاءكم أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له. وسميت الحِكمة حكمةً لأنها تمنع عما لَا ينبغي. وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز؛ قال تعالى: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا...)، وقال في وصف ثمار الجنة (وَأُتوا به مُتَشَابِهًا...)، أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال تعالى: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ...). ومنه يقال: اشتبه عليَّ الأمران، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام: " الحلال بين، والحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات ". وفي رواية أخرى " مشتبهات " (١). ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لَا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا، سواء أكان له مشابه أم لم يكن له مشابه (٢).
وعلى هذا الأساس اللغوي، نقول: إن المتشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا، أو ما لَا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، أو ما يدق ويختفي على العامة، ولا يستغلق على الخاصة. هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى المتشابه؛ فإما أن نقول إنه ما لَا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا، وإما أن نقول إنه ما يمكن معرفته ولكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم، والمحكم هو ما يقابل المتشابه، وهو الواضح البين للعامة والخاصة الذي لَا تتفاوت في إدراكه الأنظار، وما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، وهو أم الكتاب، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته، والجزمُ بمعناه، والتصديق بمغزاه. فالآيات الحكمات أم الكتاب، أي أصله الذي يرجع إليه، ويحمل المتشابه عليه، ويخرج بتخريج لَا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل. فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ، والتأويل الصادق، فما شهدت له، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل، وما يخالفه فهو الزيغ في الدين، والخروج عن جادته.
________
(١) متفق عليه وقد سبق تخريجه بألفاظه.
(٢) جاء في هامش الأصل هذا التحقيق اللغوي منقول من التفسير الكبير للفخر الرازي، بتصرف قليل.