وبعد هذا بين سبحانه وتعالى أمره الخالد، وهو العدالة المطلقة التي لا تعرف وليا ولا عدوا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا...).
وأمر بعد ذلك سبحانه بالإيمان بالله ورسوله، وبهذا يشير إلى أن العدالة قرين الإيمان.
وبعد هذا البيان الرائع الذي يصور حقيقة الإيمان وعماده أخذ يصور حقيقة النفاق والمنافقين تصويرا قرآنيا، وإن أدق صورة بيانية للنفاق والمنافقين قوله تعالى: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا). والله سبحانه برحمته التي وسعت كل شيء يفتح باب التوبة حتى للمنافقين ثم يقول: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا). أدبنا سبحانه وتعالى أدبا عاليا، وهو منع الجهر بالسوء؛ لأن الجهر به دعوة إليه، ولكن رخص للمظلوم أن يتكلم في ظالمه بالحق (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)، وقد بين سبحانه بعد ذلك أحوال اليهود، فقد فرقوا بين الرسل، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقد بين تعنت الماضين، مع أنهم أُوتُوا تسع آيات بينات، ومع ذلك طلبوا أن يَروُا الله جهرة، ثم اتخذوا العجل إلهًا من بعد ما جاءتهم البينات، ورفع الجبل فوقهم وأُخِذت عليهم العهود الموثقة، وأُمِروا ألا يَعْدُوا في السبت، ومع كل هذا خالفوا، فطبعت قلوبهم على القسوة، وعقولهم على الإنكار، والبينات تجدي طالب الهداية فقط ولم يطلبوها، وقد استمروا على افترائهم فافتروا على مريم البتول، وادعوا أنهم قتلوا المسيح (... وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّة لَهُمْ...).
وبهذا الظلم وتلك القسوة والجشع المادي حرم الله عليهم طيبات أحلت


الصفحة التالية
Icon