(وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً... (٤)
* * *
هذا الكلام في بيان العدالة مع النساء في المعاملة، فلا يصح أن يستهان بحقوقهن التي ينشئها الزواج، وأولها المهر، فالصدقة هنا هي المهر، وسمى صدقة لأن تقديمه يدل على صدق النية، والإخلاص في طلب الزوجة، فمن أخلص في طلب يد امرأة قدم لها ما يليق بمثلها تكريما لمعنى الزوجية، وتشريفا لتلك العلاقة، وقال تعالى: (نِحْلَةً) ومعناها عطاء بطيب نفس، وهي " فِعْلَة " من نَحَلَهُ ينحله بمعنى أعطاه هبة صادق النية، وفسرها بعض العلماء بمعنى فريضة واجبة، وقد فسرها بذلك أبو عبيدة، وقال الزجاج في آتوهن صدقاتهن نحلة (تدينا) أي أن الدين أوجب ذلك، والخطاب لجماعة المؤمنين يوجب أداء المهور صادقي النية طيبي النفوس متدينين بهذا العطاء.
(فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) الحياة الزوجية لَا تقوم فقط على التكليف الواجب، بل تقوم على المودة الرابطة والتسامح، وقد يجهد الرجل الهر كله، فيقتضي حسن العشرة أن تترك بعض مهرها طيبة النفس، وليست المهور كسائر الديون، إنما هو دين فيه معنى الهدية، ولذلك فتح الشارع الباب لمثل هذه المعاني. ولذلك قال تعالى: (... وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، ومعنى طابت نفسها رضيت من غير تورط، ولا تغرير ولا ضغط ولا إرهاق، وطيبة النفس بالعطاء أرق من الرضا به؛ لأن الرضا قد يتصور مع التورط أما طيبة النفس فلا تتصور إلا بالسماح، بل من غير طلب بالتصريح أو بالإشارة، ومعنى هنيئا، أي لَا ألم في أخذه، ومعنى مريئا حسن العاقبة، وأكل المال أخذه، فلا يراد بالأكل هنا حقيقته، بل يراد الأخذ الذي يؤدي إليه.
وقد كان يحدث أن بعض الناس يرهقون زوجاتهم ليتركوا بعض المهر أو كله، فكان الفقهاء حريصين على أن تتوافر الحرية كاملة في العطاء، ولذا كتب عمر - رضي الله عنه - إلى بعض قضاته: " إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما