وقد يقال: إن الاعتداء كان وهم في الجاهلية، وقد أسلموا، فكيف يتصور أن يعاملهم المؤمنون بما كان منهم في الجاهلية مع أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله؟ والجواب عن ذلك أن جرح النفس قد يستمر أثره، فنهى الله تعالى المؤمنين عن أن يكون منهم ما يكون مجاوبة لما كان من آلام نالتهم بسبب صد المشركين لهم في الجاهلية، وخصوصا أن في بيان ذلك بيانا لأن كل صد عن المسجد الحرام اعتداء على شعائر الله، سواء كان ذلك قبل الإسلام أم كان سببه هوى النفس والشيطان، ومشاحة بين المسلمين أنفسهم كما حدث في عصور سابقة، وكما يحدث الآن مهما تكن الأسباب.
وهنا قراءتان لابد من ذكرهما، - أولهما، قراءة (أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بفتح الهمزة، وهذه تشير إلى أن الصد كان في الماضي، والاعتداء مجارمة لما كان في الماضي، والقراءة الثانية (إن صَدُّوكُمْ) بكسر الهمزة (١)، ومؤداها أنه إذا كان في المستقبل من يصدكم عن المسجد الحرام، فلا تعاملوه بالمثل وتصدوه؛ لأن ذلك اعتداء.
والنص الكريم يدل على أن كل اعتداء حرام سواء أكان بالصد عن المسجد، أو كان بغيره فما حرم الصد إلا لأنه شعبة من الاعتداء.
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) إن الاعتداء والتعاون على البر والتقوى ضدان، وعندما يُذْكَر أمر يَرِدُ على الخاطر ضده؛ ولذا أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى بعد النهي عن الاعتداء. والبر: التوسع في فعل الخير للناس والطاعة لله تعالى وتطهير النفس من أدرانها، وهذا إذا لم تذكر التقوى؛ فإذا ذكرت التقوى معه، كما في هذا النص الكريم، كان البر هو الطاعة الظاهرة ونفع الناس، وإسداء المعروف لهم، وكانت التقوى تصفية النفس وتطهيرها وإخلاصها لله تعالى، وقد قال في ذلك أبو الحسن الماوردي: " ندب الله
________
(١) (إن صدوكم) بكسر الهمزة، بها قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وقرأ الباقون بفتح الهمزة. [غاية الاختصار - سورة المائدة (٧٩٧). ج ٢، ص ٤٦٩].


الصفحة التالية
Icon