وقد بين سبحانه لهم العبرة بما نزل بمن سبقوا، ومن مجاورتهم ديارهم، فقال:
* * *
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا... (٦)
* * *
القرن: الجماعة المقترنة التي تعيش في زمن واحد، والاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه، والمعنى المقرب: أيعرضون ذلك الإعراض عن المعجزات التي تبين لهم الحق، ويستهزئون ذلك الاستهزاء لأهل الحق، ولم يروا بأن ينظروا نظرة تدبر وتفكر العدد الكثير من القرون الذين أهلكناهم من قبل، وكانوا أشد قوة، وآكد منهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع فهو للتوبيخ، لأنهم فعلا أعرضوا واستهزأوا ولم يتدبروا ويتبصروا، والآية الكريمة تنبههم إلى وجوب التبصر والتدبر، وتذكرهم بما يستقبلهم إن استمروا على غيهم، وهي فوق ذلك دليل على كمال قدرته على تنفيذ إنذاره، وقد ذكَّر الله تعالى لأولئك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى في سبيل بيان العبرة:
أولا - بأنهم مكنوا في الأرض بما لم يمكن للمشركين الذين عاصروا محمدا - ﷺ - فقال تعالى: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي جعلنأم مكانا في الأرض لم نمكن لكم مثله، أي لم نمكنه لكم، وذلك كناية عن سعة السلطان، وقيام الصنائع، وكثرة العمران، وثبات حكمهم، واستقرار أمرهم، فأنتم معشر المشركين لم يكن لكم شيء من ذلك، وأنى يكون مكانكم بجوار مكان فرعون، وأنى يكون سعة عمرانكم بجوار سبأ في مسكنهم الذي كان فيه جنات عن يمين وشمال.
وثانيا - أن الله جعل لهم العيش رغدا، ورغد العيش كان غيثا من السماء فأرسل عليم السماء مدرارا، والمراد من السماء هنا جهة العلو، ولذا أفردت فقال تعالت كلماته: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا) أي أرسلنا عليهم السحب تنزل دارَّة الماء، ويصح أن نقول: إنه أرسل ما في السماء من السحب، أو اعتبرت السحب


الصفحة التالية
Icon