وهذه الدرجة العظيمة التي لَا تفضل عنها درجة قط؛ لأنهم كانوا في أوصاف عالية تجعلهم رجال الله ورجال الحق - أولها - أنهم آمنوا، والإيمان في وسط الشرك الغامر والوثنية الغالبة فيه جهاد النفس، ومغالبة الباطل، ونور العقل، ومقاومة الجاهلية وعصبيتها، وطغيانها، وشرورها وآثامها، ومع هذا كله تكون رفعة الدرجة، إذ بمقدار تلك المغالبة النفسية يكون علو الدرجة.
والوصف الثاني - أنهم هاجروا، إذ إن ذلك الوصف يتضمن نداء الإيمان بالرضا بترك الأهل وصرم القرابة والدعة والراحة، وتحمل الأذى، والخروج بالإيمان نقيا طاهرًا من أرجاس الجاهلية وعصبيتها، والخروج من جو الجاهلية المعتكر بالعصبية والضلال إلى جو النور والإيمان.
والوصف الثالث - أنهم جاهدوا في سبيل الله، أي طريق الله الحق بأموالهم وأنفسهم، فلم يكن إيمانهم سلبيا بل كان إيمانا إيجابيا، آمنوا بالحق، وضحوا في سبيله بالأهل والولد، ثم دعوا إليه محاربين الباطل، جاهدوا أنفسهم أولا بتخليصها من أدران الشرك وأوهامه، وصابروا على الأذى بعد أن صبروا عليه وقدموا أموالهم مجاهدين، وأنفسهم في اشتجار السيوف والرماح، واستجابوا لقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم " (١).
وقد حكم الله تعالى لهم فقال: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) الإشارة إلى أوصافهم، وفيه دلالة على أن هذه الأوصاف هي سبب ذلك الفوز، وقد بين سبحانه أنهم المختصون بالفوز دون غيرهم؛ لأن تعريف الطرفين وضمير الفصل دلَّا على أنهم المختصون بالفوز، ولا فائز إلا من عمل عملهم، وحمل أوصافهم، فهم رجال الله تعالى حقا، وقد بين الله تعالى جزاءهم في الآخرة فقال تعالت كلماته:
________
(١) سبق تخريجه.