وقال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (من) هنا بيانية للذين في قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) وإذا كانت (من) بيانية يكون المؤدى: قاتلوا الذين أوتوا الكتاب، وإنما ذكر الكلام أولا معرفا بأوصاف من يقاتلون، ثم بين بعد ذلك بـ (مِن)، لبيان هذه الأوصاف الموجبة للكفر والعناد أولا، ولبيان تمردهم عن الحق ثانيا، ولأن الإجمال ثم البيان يثبت المعنى فضل تثبيت ثالثا.
فالمقصود قتال أهل الكتاب بعد قتال المشركين، وفَلّ شوكتهم، ولقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك:
" هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، واستقامت جزيرة العرب على أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله - ﷺ - لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة، فأذعنوا له واجتمع من المقاتلة نحوا من ثلاثين ألفا ".
وذلك لأن والى الروم قتل من أسلم من أهل الشام، فكان لابد من تقليم أظفارهم، والكلام في القتال في غزوة تبوك سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى.
وإن هذا القتال له نهاية وهو العهد، ولذا قال تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وقوله تعالى: (عَن يَد) أي عن يد مواتية طائعة راضية، غير ممتنعة، والتعبير باليد إشارة إلى إنهاء القتال الذي يكون بيد باطشة، متجاوزين إلى يد معطية للجزية بالرضا، (وَهُمْ صَاغِرُونَ)، أي كما نقول غير متمردين، قد دخلوا في طاعة أهل الإيمان في صَغَار منقادين مؤتلفين، غير مجاهرين بالعداوة.
وما يعطيه الذمي من المال يسمى جزية، لأنها تجزى أي تقضى، ولأنها جزاء لأن يدفع الإسلام عنهم، ويكفيهم مئونة القتال، ولأنها جزاء لما ينفق على فقراء أهل الذمة كما كان يفعل الإمام عمر، وكما هو واجب في ذاته على المؤمنين وإن


الصفحة التالية
Icon