أنشأ اللَّه تعالى السماوات والأرض في هذه الأدوار التكوينية بتدبيره سبحانه وبإحكامه وإرادته وهو الفاعل المختار، وليس كل دور انتقالا من الدور الذي سبق فيتوهم أن كل دور خلق ما بعده بل إن ذلك بإرادة المنشئ المختار؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) والمعنى استولى على السلطان والعرش كناية عن كمال السلطان فهو صاحب الملك قد استوى على كرسي ملكه الذي خلقه وأنشأه على غير مثال سبق، وأنه يدبر شئون ذلك الكون الذي أبدعه (بَدِيع السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...)، ويدبر أي يتحكم فيه ويقدر ويضع كل شيء في موضعه الذي يلتئم مع ما يناسبه فخلق الماء في الأرض وجعل منه كل شيء حي وخلق المطر الذي يكون غيثا وينبت منه كل شيء وجعل الأرض فراشا والسماء بناء.
وأصل التدبير معرفة أدبار الأمور، والمدبر يعرف حاضر الأمور ويعلم القابل والحاضر والدابر منها والعواقب، لَا يغيب عن علمه شيء وقد أحاط بكل شيء علما وفي قوله: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ) الأمر هو أمر الخلق والتكوين ومن يعيش في السماوات والأرض وحالهما - تبارك اللَّه.
(مَا مِن شَفِيعِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) هذا إنذار للذين يعصون من خلقه بأنهم عند العذاب لَا تنفعهم شفاعة الشافعين وما لهم من شفيع يشفع ولا قربة يفتدون بها أنفسهم فإنه لَا شفيع إلا من بعد إذنه، والتعبير بقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) إشارة إلى أنه محكوم بسلطان اللَّه تعالى غير خارج عن ملكه لَا يفرض عليه.
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى - قوله تعالى: (يُدَبِّر الأَمْرَ) جملة مستأنفة لبيان كمال السلطان، وهي أثر للخلق والتكوين، لأنه إذا كان الخالق كان المدبر وتدل على أنه فاعل مختار.