وهكذأ نرى نبي اللَّه يوسف عليه السلام ابتدأ بإثبات معجزته، ثم نهى عن الشرك، ووجههم إلى الاقتداء بشخصه، وقد صاروا له حبيبين، ثم وازن بين الوحدانية وتعدد الآلهة، ثم بين لهم إلى أنه لَا وجود لما يسمونه آلهة، وأن الدين القويم الحق الذي يوافق قضية العقل البديهية هو الوحدانية.
بعد ذلك اتجه لتأويل رؤياهما، وقد يقال إن دعوته إلى الوحدانية، كانت بين اثنين، ونقول: إن محمدا صلى اللَّه تعالى عليه وسلم ابتدأ دعوته بين زوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وعلي وكان ابن تسع، ومولاه، ومكث سستخفيا بالدعوة بضع سنين، فالعدة لَا تكون بكثرة العدد، ولكن بقوة الإيمان. اتجه إليهما بعد ذلك الإرشاد قائلا:
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ... (٤١)
وقد كان الأول ساقيا للملك بعد ذلك، وروي أنه كان من قبل ساقيا، فاستمر في عمله بعد أن اتهم بأنه دس في الشراب سما، فتبين يطلان التهمة، فعاد إلى عمله بعد أن سجن، والثاني اتهم بأنه دس في الطعام سما، وثبتت التهمة فقتل وصلب، واللَّه أعلم.
مكث في السجن حينا، وهو يعلم أنه بريء والملك يعلم ذلك، والنسوة يعلمن، فأراد أن يذكر الملك بنفسه فطلب ممن ظن أنه ناج أن يخبر الملك بذلك
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ... (٤٢)
أي عند الملك، وسماه ربًّا مع أن يوسف نبي التوحيد، من قبيل رب الأسرة بمعنى راعيها، وحافظها، فنسي أن يذكر ذلك فمكث نبي اللَّه بعد ذلك بضع سنين، وهذا قوله تعالى: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
وهنا ملاحظتان تتعلقان بالمنهج البياني القرآني الأولى: قول يوسف (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا)، فعبر بالظن ولم يعبر بالعلم، تأدبا مع اللَّه في العلم بالغيب، فإنه وإن كان يقينا عند يوسف، ولكن طريقه لَا ينتج إلا ظنا.