بين الله تعالى في الآيتين السابقتين علم اللَّه تعالى بالغائب والحاضر علما واحدا، وعلم الإسرار والجهر علما واحدا، لَا فرق في علمه بين إسرار النفوس وجهار الألسنة، وأنه يعلم المستخفي في ظلام الليل كعلم السارب بالنهار على حد سواء، وفي هذه الآية: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ) الآية تبين أن علم اللَّه تعالى يحيط بالحسنات والسيئات، ويحفظ الإنسان في حياته ما دام حيا، وكل بأمره، ويعرف حاضر أمره وقابله وتفسير أحواله وأسباب التغير كل في علم اللَّه تعالى وكل بإرادته، فالمستغرق في ضلاله يعلمه ويغير ما به إذا غير - ما بنفسه؛ ولذا قال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) " المعقبات " جمع معقبة، والتاء للمبالغة مثل علَّامة وفهَّامة، فإنها تدل على المبالغة في العلم والفهم، ومثل رحالة ونسابة، فإنها تدل على كثرة الرحلة، ودقة العلم في النسب.
والمعنى تعقبه فهي تكون ملازمة له محتذية عقبه لَا تختلف عنه، والضمير يعود إلى الإنسان المتحدث عنه في قوله تعالى: (سَوَاءٌ منكَم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) فكما أن اللَّه تعالى يعلم سره وجهره، واستخفاءه وظهوره، قد أحاطه بمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحيطون به إحاطة الدائرة بقطرها، وهم من الملائكة يحصون عليه ما يفعل من خير وشر، ويكتبون ما يفعل من حسنات وسيئات، ولقد قال تعالى: إنها مع هذه الإحاطة الشاملة به وأنهم يعدون عليه سيئاته وحسناته، مع هذا فإن عمل هؤلاء الملائكة أنهم يحفظونه من أمر الله تعالى، ويقول الزمخشري: إن قوله تعالى: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) صفتان، أي بعد (مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ).
وتقدير الصفة الأولى، أي أن هذه المعقبات (تحفظه)، وقوله: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) صفة ثانية أي يحفظونه لأنه أمرهم بذلك، وكلفهم الحفظ وصيانته، وقال الزمخشري: إنه يؤيد لذلك قراءة (يحفظونه بأمر الله) فهم مكَّلفون الحفظ بأمر اللَّه تعالى.


الصفحة التالية
Icon