والآن ونحن نرى الاختلاط الفكري بين البشرية، حتى إن الأمر ليقع في أرض فيذيع خبره، بعد أقل من ساعة في كل أنحاء الأرض، لَا نعجب في أن يكون بعث الرسول بلغة ويعم علمه بعد ساعة من نهار أو ليل كل بقاع الأرض، ولكن العجب في أن يكون في الماضي البعث بلغة والدعوة عامة، هذا ما أثاره وبينه الزمخشري، وهذا ما قاله سننقله بطوله:
" فإن قلت لم يبعث رسول اللَّه - ﷺ - إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس الناس كافة (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعًا...)
بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم يكن للعرب حجة فلغيرهم حجة، وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم يكن للعرب حجة أيضا، قلت:
لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة لنزوله بجميع الألسنة؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما نرى الحال ونشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك جلائل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكذا القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب؛ ولأنه أبعد من التحريف، وأسلم من التنازع والاختلاف..... " (١).
وننتهي من كلام الزمخشري إلى أمرين: أولهما: أن نزول القرآن والدعوة المحمدية كانت باللغة العربية؛ لأنها كانت لغة النبي - ﷺ - فكانت أقرب إليه؛ ولأن القرآن العجز إذا كان باللغة عانى غيرهم من حفظ لفظه وتفهم معانيه، وفي ذلك ثواب أولا، وصون للقرآن عن التغيير والتبديل فيه ثانيا.
_________
(١) الكشاف: ٢/ ٣٦٦.


الصفحة التالية
Icon