الإشارة (هَذَا) كانت بالقريب، ولم تكن بالبعيد للإشارة إلى قربه من المؤمنين، وقربه إلى أذهان الذين يجادلون في آيات اللَّه تعالى؛ لأنه من وقت البعثة وابتداء نزوله، والمشركون يفتلون الذروة والغارب (١) ليردوا دعوته، وهو مع ذلك يسري في أوساطهم سريان النور المبصر في وسط الضلال المظلم فهو قريب من أذهانهم، وإن لم يؤثر في قلوبهم لغلبة الهوى والجاهلية.
وقد ذكر سبحانه الأثر لهذا القرآن الذي يكون وصفا ملازما له فقال تعالى (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أقوم أي أعدل وأكثر استقامة وتوجيها دليلا، فيحمل في نفسه برهان صدقه، والموصوف محذوف ويقدره القارئ بكل ما يكون قويا في ذاته خيرا في نتيجته وهدايته، وقال الزمخشري: إن حذفه يجعل الكلام أعظم وأفخم من ذكره. ونقول: إنه لم يذكر لهذه الإشارة التي أشار إليها إمام البلاغة، ولم يذكر لعموم المحذوف لكل أنواع مناهج الخير والرشاد، فيشمل المحذوف الشريعة التي تهدى للتي هي أقوم، وملة التوحيد التي هي أقوم، ومناهج الخير التي هي أقوم في سلوك الإنسان، وهكذا يشمل تقدير المحذوف كل ما هو خير في ذاته، وخير في دلالته، وقد قدره بعض العلماء بما يقرب من هذا الشمول، فقال يهدي للحال التي هي أقوم لتشمل الحال حال المجتمع، وحال الأسرة، وحال الإنسانية، وكل حال هي خير للإنسان في عاجلته وآخرته، معاشه ومعاده.
هذا هو الوصف المؤثر في التوجيه الإنساني للقرآن، وفيه وصف إيجابي هو السبب في هدايته مع إعجازه، وهو أنه مبشر ومنذر فهو مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين، فقال تعالى: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ذكر سبحانه وتعالى حالتين أولاهما: الإيمان، وثانيتهما: العمل الصالح، وقرن الإيمان بالعمل الصالح لتلازمهما، وإن الإيمان الكامل والإذعان الصادق
________
(١) مثل يضرب في الخداع والمماكرة، والذروَة: أعلى السَّنام، وأعلى كل شَىء. أصل فتلَ الذَّروة في البعير: هو أن يَخْدَعه صاحبهُ ويتلطف له بفَتْل أعلى سَنامه حكّا ليسكن إليه فيتسلقَ بالزمام عليه، قَاله أبو عبيدة، معجم الأمثال - الميداني - الباب العشرون - فصل الفاء (٢٧٣٠).


الصفحة التالية
Icon