وفى التعبير عن العمل بالطائر إشارة إلى ما كان عند العرب من التشاؤم والتفاؤل، فاللَّه سبحانه وتعالى يبين أن العمل كهذا الذي كنتم تتخذونه للتشاؤم والتفاؤل، ولكنه عمل هو خير لكم أو شر عليكم، وعبر عنه بملازمته الأعناق؛ لأن العنق هو الذي تكون به القلائد، فكان ذلك ترشيحا للاستعارة، ولنستعر توضيح هذا المعنى من شيخ المفسرين الطبري، فهو يقول: إذ أعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان الذي ألزمه وشقاء يورده سعيرا، أو كان سعدا يورده جنات عدن، وإنما أضيف إلى العنق، ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل لأن العنق هو موضع السمات، وهو موضع القلادة والأطوقة ونحو ذلك مما يزين به أو يشين، فجرى كلام العرب على نسبة الأشياء الملازمة سائر الأبدان إلى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداك، وإن كان الذي يجري عليه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله تعالى: (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) اهـ بتصرف قليل.
وخلاصته، أن قوله تعالى: (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) كناية عن ملازمة أعماله له لَا تزايله ولا تفارقه يوم القيامة، وقد أكد سبحانه ذلك المعنى بأن أعماله الملازمة له ملازمة القلادة للعنق محصية عليه إحصاء دقيقا في كتاب لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فقال: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) فيه قراءات لـ (يلقاه) أولها بنون المتكلم العظيم في نفسه وذاته العلية، وهو اللَّه سبحانه وتعالى، وثانيها بالياء، ويعود بالضمير على اللَّه تعالى، وهو حاضر في النفس دائما، وهناك قراءة بالقاف المشددة (يلقَّاه)، فيه مبالغة في لقائه أو حمل له على التلقي، وهذا الكتاب هو صحيفة أعماله التي يحاسب على خيرها، بالجزاء الأوفى، وعلى شرها بالعذاب الأليم، ويفهم من كلام البيضاوي أن هذا الكتاب هو ما ينقش على نفسه من الأعمال التي تتكرر، فتكون بتكرارها خطوطا منتقشة، وتعرض هذه النُّقُش صحيفة منشورة مكشوفة، ولننقل عبارته: " هى أي الكتاب صحيفة عمله أو نفسه، المنتقشة بآثار أعماله، فإن الأعمال الاختيارية تحدث في


الصفحة التالية
Icon