الذي يلازمه، ولا يفترقان، ويتبعهما سيطرة الأهواء والشهوات، وغمر العقل والإدراك بهما حتى لَا يدرك إلا من ورائهما، فإن تسهيل ذلك يكون كالأمر؛ لأنه يؤدي مؤدى الطلب، وقد قال في ذلك الزمخشري كلمة حكيمة، قال: والأمر مجازي، حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لَا يكون فبقي أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه سبحانه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إملاء النعمة فيه وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول، وهو كلمة العذاب فدمرهم. هذا هو المعنى على قراءة الفتح بتخفيف الميم.
والقراءة الثانية: هي تشديد الميم، أي (أَمَّرْنَا) مترفيها بأن جعلناهم أمراءها، وحكامها فكانوا أمراء أشرارا؛ لأن الترف كما بينا يؤدي إلى الشر والأثرة، وحيثما كانت الأثرة بَعُدَ الخير، والأمراء الأشرار هم أساس الفساد، ولقد قال النبي محمد - ﷺ -: " إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياءكم، وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها " (١).
والمترفون الذين أترفوا في ذات أنفسهم، وعمتهم الأثرة، والرخاوة، وحب الشهوات إن كانوا أمراء كانوا، ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال: " إن لكل شيءآفة، وآفة هذا الدين حكامه " (٢).
القراءة الثالثة: أن الميم مفتوحة بالتخفيف ومد الهمزة أي (آمَرْنَا) ويكون المعنى كَثُر أي إذا أكثر اللَّه تعالى المترفين في الأمة عمها الفساد والفسق فدمرها اللَّه تعالى تدميرا.
________
(١) رواه الترمذي: الفتن - ما جاء في سب الريح (٢١٩٢).
(٢) مسند الحارث بن أبي أسامة (٦٢) - ج ٢/ ٦٤١، وأورده السيوطي في الجامع (١٧٢٧٨) ج ٦/ ١٧.