وهنا أمران بيانيان نشير إليهما:
الأمر الأول: في قوله تعالى: مترفيها - فيه إشارة إلى أن السبب في التدمير هو الترف والاسترخاء، ولذا قال تعالى: " ففسقوا " والفاء هنا لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن تمكين المترفين مؤد إلى الفسق لَا محاله.
الأمر الثاني: أن التدمير: الهلاك وهو نوعان: النوع الأول ذهاب قوتها، وأن تكون طُعْمة سهلة لغيرها، فذلك فناء لشخصية الأمة وضياع لقوتها، وصيرورتها تابعة لغيرها، فتفقد عزتها، والنوع الثاني: أن ينزل اللَّه تعالى عليها عذابا من عنده، كريح حاصب صرصر عاتية، أو يجعل عاليها سافلها، ويمطرهم حجارة من سجيل، كما فعل بقوم لوط، إذ فسقوا عن أمر ربهم.
وأيا كان نوع التدمير، فقد رتبه سبحانه على الفسق، وأكده بالمصدر الذي هو مفعول مطلق، فقال سبحانه: (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، وقوله تعالى: (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ)، أي فوجب عليها القول أي أمر اللَّه تعالى بتدميرها، إما بسبب عادى أدى إليه الترف، وإما بعذاب من عنده، واللَّه تعالى أعلم.
وقد أشار سبحانه إلى أن ذلك كان السبب في هلاك القرون من قبل، فقال تعالى:
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)
اللَّه سبحانه وتعالى يضرب الأمثال بالأمم السابقة من نوح إلى البعث المحمدي، فإن الترف هو الذي دفع المترفين إلى معاندة الأنبياء، واندفاعهم في الأهواء والشهوات، ثم دفعهم ذلك إلى أن غشى قلوبهم فاهلكوا بما أترفوا وبما فسقوا و " كم " في قوله تعالى: (وَكمْ أَهْلَكْنَا) دالة على الكثرة، فهي ليست استفهامية، والمعنى كثيرا أهلكنا من القرون، وموضع (كم) النصب بأهلكنا، و (من) بيانية، والقرون جمع قرن، وهو الجيل من الناس، والمعنى كثيرا أهلكنا من الأجيال التي بعد نوح. في أمم الأنبياء الذين أترفوا وفسقوا وعاندوا الأنبياء