الوجه الثاني: أن التبذير إضاعة رزق اللَّه تعالى، في غير نفع، بل في ضرر مؤكد، وهذا يرضي الشيطان، ويقرب المبذر إليه.
الوجه الثالث: أن التبذير كفر للنعمة والشيطان يحث على المعاصي، والمعاصي كلها كفر للنعم، وختم اللَّه سبحانه الآية بقوله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)، أي أنه كافر بنعمة اللَّه كفرا بلغ فيه أقصاه فلعنه اللَّه.
وإذا كان الإسراف منهيا عنه، فالبخل أيضا منهي عنه، والاعتدال هو المطلوب ولا يكلف إنسان ما لَا يقدر عليه، ولذا قال تعالى:
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨)
الإعراض عن العطاء ألا يعطي، ولا يمنع بل يسكت كأنه المعرض، ولا يستحسن المنع؛ لأن المنع فيه إيئاس من العطاء، ولا يريد ذو المروءة ألا يلقى اليأس والرد القاطع المؤيس في نفمص طالب، ولكنه لَا يعطي عجزا، أو لعدم استحقاق الطالب، والخطاب للنبي - ﷺ -، ومن وراء خطابه خطاب أمته، والآية تأديب كريم وتوجيه إلى ما يكون عندما لَا يكون مال يجب العطاء منه، أو عندما لَا يكون موجب للعطاء.
و (إِمَّا) هي (إن) المدغمة في (ما) التي تفيد توكيد الإعراض بتوكيد حاله أو توكيد موجبه، ولذلك كانت نون التوكيد الثقيلة، كما تكون عند القسم.
وفى قوله تعالى: (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ من رَّبِّكَ تَرْجُوهَا) تخريجات ثلاثة، وكلها يؤدي إلى معنى سليم في ذاته:
التخريج الأول: أن يكون (ابْتِغَاءَ) تعليلا للإعراض أي أن الإعراض لتبتغي رحمة بهم من ربك ترجوها؛ كأن ينفقوها في معصية أو خمر، فالرحمة التي يبتغيها بالإعراض هي منعهم من المعاصي أو عدم تسهيلها لهم، بعدم المعاونة عليها، وهذا حسن في ذاته، وربما يكون بعيدا بالنسبة للمسكين وابن السبيل، وهو القريب المنقطع عن ماله، وقد يكون مقصودا بالنسبة للقريب، وأولئك هم موضوع الإعراض، - لأن الضمير في قوله تعالى: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) يعود إلى هؤلاء.