وإذا كانت تلك سمة هذا العصر فكان عصر الخوارق المبطلة لذلك التفكير الضال، وقلنا إن يحيى كان حمله خارقا للعادة؛ لأنه كان من أب بلغ من الكبر عتيا وأم كانت عاقرا لَا تنجب.
وعيسى كان من غير أب، بل سبق ذلك خوارق أخرى في الحمل بأمه، وفي كفالتها ومدة حضانتها، فقد كانت وهي في حضانة زكريا تعيش في المسجد محررة له كما نذرتها أمها في أثناء الحمل بها، إذ قالت مخاطبة ربها: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨).
نرى أن خرق نظام الأسباب والمسببات ابتدأ بما كان من رزق مريم الذي أثار عجب زكريا، وقد رأى الأسباب تُطوى ولا تحول بين اللَّه تعالى وما يريد، فدعا ربه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة.
فخرق نظام الأسباب العادية ومسبباتها كان في أم عيسى قبل أن تجيء إرهاصات ولادته، بل كانت هذه هي الإرهاصات الأولى، ولذا كان اصطفاء اللَّه مريم البتول لتكون أم المسيح، إذ قال عز من قائل (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)، كانت هذه كلها إرهاصات لما اختارها اللَّه تعالى له.