قضيت هذه الدار إذا عملتها وأحكمت عملها" (١)، وكل ما اقتضاه البناء فهو من جملة الإحكام والتمام.
ولكن قبل الخوض فيها يجب علينا أن نتيقن بأن الثابت بعبارة النص وهو ما جاء السياق لأجله، هو المعنى الذي قلناه في هذه الحروف وهو الأصل والتفسير الحق، قبل الانتقال لتأمل هذا النص ابتغاء تأويله وبيان مقاصده، ونبدأ ببيان المقاصد الواقعة بالإشارة في ذكر هذه الحروف بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان وربطه مع الإشارات في الآيات التالية لها في السور، لتتوضح الإشارة بتناسقها مع سواها، فتتم بمجموعها البلاغة المعهودة في كلام الله ويظهر فيها الإعجاز كما هو الحال في آيات القرآن كله.
الباب الأول: معرفة واقع التنزيل
لمعرفة هذه الإشارة يجب الوقوف على واقع العرب المتلقين عند نزول الحروف، وذلك بالرجوع لما ورد في القرآن لوصف حقيقة واقعهم، ولما وصلنا من مرويات وما تحصل لنا من علم بالتاريخ والآثار، مع التدقيق على كل ما له صلة بالقرآن والكتابة بشكل خاص، لكون الحروف على أصلها دالّةٌ على الكتابة والكتاب. وأهم صفة لهم تظهر واقعهم في زمن الخطاب هي الأمية كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: ٢] وقوله - ﷺ - "إنَّا أمَّة أمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين" (٢)، فهذا وصف

(١) لسان العرب - مادة قضي
(٢) رواه الإمام أحمد (٤٣/ ٢) والبخاري (٢٨/ ٣) ومسلم (٧٥٩/ ٢) وابو داود (٧٠٩/ ١) والنسائي (١٣٩/ ٤) وابن ابي شيبة (٤٩٧/ ٢) والبيهقي في السنن (٢٥٠/ ٤) وابو عوانة (١٧٣/ ٢).


الصفحة التالية
Icon