نفوسهم، وكذا الأمر في قصة داود، وقد علم أن السائلين ابتداءً ليسوا بسفهاء، لأنهم ليسوا من البشر، وما أتوا إلا لعظيم، وعلم أنهم لا يكذبون لأنهم لو كانوا كاذبين لما كانوا من الملائكة بل كانوا من الشياطين، وهم إذ صدقوه وأظهروا عدم قصدهم الشر بقولهم (لا تخف) فهي الفتنة لاستنطاق الحكم منه، فعلم أن النعاج والسائل عنها أعلم من المسئول، وليست المسألة بهذه البساطة، وهنا ظن داود بعد انتهاء الحديث بينهم أنما يريد الله أن يختبره (١)، والظن هنا فعل نفسي بين اليقين والشك، وهو أقرب إلى ليقين لتوافر المسببات الداعية له (٢)، والظن لا يُبنى إلّا على ظن، ولا يبنى على يقين أو محض شك (٣)، كما أن ظنّ داود مبني على ظنّه القدرة على الحكم بين هذين الخصمين، وتقديرها هنا وظن داود أنها فتنة كما ظن أنّه قادر على الحكم بين الخصمين، فخر لله ساجداً واستغفر ربه ورجع إليه يطلب منه المغفرة، فغفر له؛ لأنه لم يخالف أمر الله في الحكم بالعدل، بل هو لم يتبع ما بين الله له من أسباب الحكم بالعدل، وهي مسببات الحكم باليقين، وقد بيّن الله هذه الأسباب بعدها كما ذكّر بها داود عليه السلام بقوله تعالى ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ فهو خليفة في الأرض لا في السماء ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ فحكمه بين الناس لا بين غيرهم من المخلوقات كالملائكة، ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إشارة بأن داود لم يحكم بالهوى قطعاً حتى وإن جانب الصواب، لأن الحكم بالهوى يقضي البقاء على ما يهوى الحاكم، أما داود فقد خر من فوره ساجداً طلباً للعفو، ولذلك غفر الله له فيما ابتلاه، ولو حكم بالهوى لحكم لصاحب التسع والتسعين، لعلمه بأنه الأقوى بينهم، وداود أضعف منهما، والوقوف مع القوي فيه عزّ وقوة، وهو لم يأخذ بهذه
(٢) قال الطبري (١٨١/ ٢١): والعرب توجه الظن إذا أدخلته على الإخبار كثيراً إلى العلم الذي هو من غير وجه العيان.
(٣) وقد ظن بعض أهل العربية بأن كلمة ظنّ أتت بمعنى أيقن، مما يورد شبهة في اللغة بأن الكلمات لا تحمل المعاني إنما السياق هو من يحمل المعاني وهذا ظن خاطئ، ووقع التنبيه عليه في نفس السورة، فقد ذكر الله اليقين والشك والظن في موطن واحد لنعرف الفرق، فجاء في أول السورة ﴿بل الذين كفروا﴾ وهذا هو اليقين بعينه لأن الله قرر، و ﴿بل هم في شك من ذكري﴾ هو الشك بعينه لأن الله قرره، و ﴿ظن داوود﴾ هو الظن وهو إلى اليقين أقرب، ولا يكون يقينا مطلقا لما سلف من كلام الطبري ولما يقتضيه الجهل بما في النفوس.