الأسباب فخرج حكمه مجانباً للعدل، وبعد ذلك جاءت ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦)﴾ وفيها توعد الله من يحكم بالهوى أن له عذابا شديدا. فهذه قصة داود وهو أحكم ملوك الأرض مُلكاً وأوسعهم حكمة وأعدلهم جميعا، وهو النبي الملك لم يحكم بالعدل في أهل السماء، لأنه ليس منهم، وهذا السبب هو نقض حجة المشركين في تكذيب الرسول - ﷺ - بأنه منهم، فأي حجة لهم بعد هذا البيان. وجاء في وسط السورة ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)﴾ وذكر بعدها قصة خلق آدم واستعلاء إبليس، وكلها إشارات بذات النظم المتناسق.
الحجة الثانية: وهي قولهم كذّاب، وجاءت الإشارة على هذه الحجة وردها في حال الخصم وهم من الملائكة، ولفهم هذه الإشارة لنفرض أن اثنين من أهل مدينة حضرية علم الناس بأنها مكان يستحيل فيه عيش الأغنام لما عرف من حالها، وكانت لهم هيبة، وعلمنا بأن أهل تلك المدينة عُرفوا بطيب الأخلاق وحسن المعاملة فيما بينهم وبين الناس، ولم يقل أحد فيهم يوماً بسوء، فقال أحدهما في مجلس بمدينة أخرى: إن عندي مئة نعجة، بلغة الجالسين لا بلغته، لعدم معرفة الجالسين بلغته، فماذا سيتبادر لذهن الجالسين؟ أما السفهاء ومن لا يقْدر الناس قدرهم فسيهزأون به ويظنونه مدعياً كذاباً، وأما غيرهم فسيعلمون أنّه صادق، ويلتمسون لكلامه معنى، إما أنه يملكها في مكان يصلح لها أو أنّه قصد بالنعجة شيئاً آخر أو أنه يملكها بمدينته ولا يعرفون كيفية حفظها، وفي قصه داود كانت لديه خيارات، الأول: هو تكذيبهم، ولم يكن ليفعله أو ليظنه لحالهم ولمعرفته بأن أهل السماء لا يكذبون، والثاني: هو تصديقهم من غير سؤالهم عنها وفيه رفع لشأنهم واحترامهم، والثالث: هو تصديقهم مع سؤالهم عن حال نعاجهم وما هي على الحقيقة وهذا إن حصل ففيه التقليل من شأنهم، لأنهم سألوه عن مسألة ولم يقصّوا عليه خبراً، فاختار الثانية لحكمته، وكان ينبغي أن يقول علمها عند ربي وما أوتيت من العلم والملك إلا


الصفحة التالية
Icon