قليلاً. والإشارة هنا في اختيار داود للثانية، وهي دلالة على أن السفهاء هم فقط من يكذّبون أهل الصلاح والتقوى، ويظنون بهم ظن السوء، وأهل الحكمة يصدّقون من عُرف بالصدق حتى سمي الصدوق بينهم، أو يصدقوه حتى يتبين لهم ما يقول من الحق، وبذلك جاء التقريع للمشركين. وفي هذا يقول ان خلدون: "ولا تنكرنَّ ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله، فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات... وليس ذلك من الصواب، فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة، ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها... فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمناً على نفسه، ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته. فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه." (١)
الحجة الثالثة: وهي القول بتعدد الآلهة، وقد جاءت الإشارة عليها من وجهين، الأول في قول داود بأن الخلطاء يبغي بعضهم على بعض، وهذا إن تشابهت أحوالهم، وكذلك الآلهة إن كانوا خالقين كلهم، وزعم كل منهم بأنه المستحق لعبودية الآخر، كما هو الحال عند البشر المخاطبين، فهم من الخلطاء وتتشابه أحوالهم، وبالتالي سيبغي بعضهم على بعض، وسيستعلي أحدهم على الآخر، وهو مذكور بالنص في قوله تعالى ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١] واختار داود كلمة الخلطاء ولم يقل الناس، لأنه قد أوتي الملك والحكمة وعلّمه الله مما يشاء كما جاء في سورة البقرة بقوله تعالى ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١)﴾ وجاءت الإشارة للوجه الثاني بما حكم به داود وما يقتضيه الملك