عيب أو نقص في النصوص التي خاطبتهم، وهم أقدر الناس على الإطلاق لفهم وتمحيص هذه النصوص، وقد وصلنا الكثير من الآثار الدالة على محاولتهم فهم المقاصد والتأمل بالكلام، كما وصلتنا ردودهم الفصيحة وألفاظهم المسيئة، من أولها: (رد أبي لهب حيث رد الله عليه بـ ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: ١]، إلى آخرها: وهو قولهم (أخ كريم وابن أخ كريم) (١)، ولم يَرِد ولو بنص ضعيف تعليق واحد منهم على هذه الحروف المقطّعة، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل وبكل وضوح على علمهم بمغزاها، وهو أن هذه الحروف نزلت كشعار لبعض السور، لتعظيم السطر بها ولتنظيم الكتابة في القرآن، وبها ستخلّد لغة العرب، وسيكون لها ما كان لغيرها من لغات الأمم الأخرى من الشهرة والعظمة، بل أكبر وأجل، بأن سيكون لهم كتاب كما للأمم قبلهم كتب، مكتوب بلغتهم الفصيحة التي يتغنون بها في أشعارهم، وهم أعرف الناس بما سيكون عليه هذا الكتاب إن تمّت العناية به، وعلى يقين بأن لغتهم هي الأجدر بين اللغات لتسطر بها الكتب، مع وضاعة علم الكتابة عندهم. فهي تمثل دعوة لهم ترغيباً في كتابة كلام الله، كما جاء ترغيبهم بالإيمان بكلام الله لنزوله بلغتهم في ذات السورة (بلسان عربي مبين) أي لسان بليغ يبيّن للأمم جميعاً ما أراد الله. هذا كله مع علمهم بأن الغاية من القرآن لم تكن لإبداع كتاب أو الحفاظ على لغة من بين اللغات، فلو طرح أحدهم في ذلك الزمان تأليف كتاب لتخليد لغة العرب وأشعارهم، لأجلوه أعظم إجلال، ورفعوا منزلته بينهم، وهذا ما يحصل في الأمم عموماً من تخليد أهل الكتب وأهل العلم، لكن الغاية من القرآن أعظم وأجل، وهي عبادة الله وحده وإنفاذ تشريعه بين الناس، والحفاظ على ما أنزل من أحكام، وبناءً على هذا الحفظ ألزم القرآن حفظ لغة الخطاب، بما فيها من لفظ وكتابة ومعنى، وقد علم المشركون أنهم إن آمنوا بالغاية تحصلت لهم الوسيلة، وهذا كله مع معرفتهم لرسول الله - ﷺ - وبأمّيّته، وبما أنه قال هذه الحروف بأسمائها دون ألفاظها و"التعبير عن الحروف بأسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة " (٢)، فهي دلالة على أنها ليست من نفسه، بل هي ليست مجالاً للنقاش معه، إذ هي بالمحصلة ليست لهم أو ليس لهم خيرها، إلا إن اتبعوا ناطقها، لكونها خاصة بمن سيكتب القرآن، وبها سيكون المتبعون لها أهل كتابة، وهم ليسو كذلك في الأصل بل هم أميون، فكانت إعجازاً لهم عن الكلام فيها. وإن قال قائل بعد هذا البيان (لا بل لم يفهموها) نقول له ما ذكره الرازي على الاحتجاج بالمعقول في هذه الحروف "من وجوه: أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة اليونانية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها: إن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً، وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها: إن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به" (٣)، وفي كلام العرب: "وكلُّ مَنْ لم يُفْصح بشيء فقد أَعْجَمه. اسْتَعْجم عليه الكلامُ: اسْتَبْهَم" (٤)، وقد جاء بعضها قبل الرد في سورة فصلت على طلبهم بإعجام القرآن

(١) رواه الأزرقي في أخبار مكة (١٢١/ ٢) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين (ثقة من صغار التابعين) عن ثلاثة من التابعين الثقات هم عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وطاووس مرسلاً بسند رجاله ثقات غير مسلم بن خالد اختلف عليه علماء الجرح والتعديل بين توثيقه وتضعيفه لكثرة غلطه في الحديث وهو فقيه عابد، وروايته هنا صحيحة، فله متابع وهو إسماعيل بن عياش عند القاسم بن سلام في الأموال (ص١٤٣) وعنه حميد بن زنجوية في الأموال (٢٩٣/ ١) ورواه البلاذري في فتوح البلدان (ص٥٧) من حديث عبد الله بن عبد الرحمن أيضاً، وقد ذكره الشافعي في كتاب الأم (٣٨٢/ ٧) من كلام القاضي أبو يوسف (ت١٨٢هـ) وذكره ابن كثير في السيرة (٥٧٠/ ٣) من كلام محمد بن إسحاق إمام المغازي (ت١٥٠هـ)، أما ما رواه الواقدي في المغازي (٨٣٥/ ٢) فلا حجة فيه لأنه متروك الحديث ومثله ما رواه ابن جرير الطبري في التاريخ (١٦١/ ٢) من حديث بن حميد الرازي فهو متروك أيضاً.
(٢) إشارات الإعجاز للنورسي، الم البقرة وآل عمران، ص٤٣
(٣) الرازي (٥/ ٢) تفسير سورة البقرة، مع التصرف بتغيير اسم اللغة البديلة إلى اليونانية، لأنه لم يختر لغة معروفة في التاريخ وإنما وصفا للهجة.
(٤) لسان العرب - مادة عجم.


الصفحة التالية
Icon