كما في سورة القلم، فكيف تأتي بالإعجام ابتداءً، ويردّ الله بعدها في سورة بقوله تعالى ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ وبيّن شبهتهم بقوله تعالى ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ فهي إذن ذات دلالات لا مجال لنفيها، ومن إدّعى بأن فيها خبيئة فقد رمى القرآن بالإعجام.
وتماشياً مع من إدّعى بأنهم لم يفهموها، أو قال فهموها على غير هذا الوجه أقول: عرفنا بأنهم أميون بنص الكتاب والسنة وعلوم التاريخ والآثار، والسؤال هنا: ماذا سيفهم الأمي لأول وهلة عند سماعه هذه الحروف بأسمائها (نون، قاف، صاد، حا ميم)؟ أو ما هو المغزى من ذكرها؟ هل أنها من أسماء سور ذلك الكتاب الموعود، والذي لا زيغ فيه ولا باطل؟ أم يلزمهم عدها وقسمتها على سبعة ليعرفوا ما بها من دلالات حسابية، وهم لا يعرفون الحساب أصلاً؟ وكما أسلفت فإن لهذا الأمّيّ حالات، وكلهم فصيح بلسان القوم، أمّي لا يعرف الكتابة، وأمّي بالنسب لأهل الأمّية.
أما الأول منهم فلن ينطق ببنت شفة، لكونه جاهلاً بها وبأصول الكتابة فليس له أن يتكلم أصلاً، وكأن هذه الحروف قد أخرسته وأعجزته عن مجرد الحديث العابر فيها، وزيادة عليه إن سماعها يعد تقريعاً له ولقومه على جهلهم بالكتابة وعلوم الكتب (١)، إلّا إن اتبعوا قائلها، فإما أن يقول آمنت أو يقول كفرت، هذا إن كان جاهلاً لا يقرأ ولا يكتب، وهم الغالبية من أهل الجاهلية، فكيف بمن كان عارفاً بالقراءة والكتابة وبارعاً في نظم الكلام، وعارفاً بقوانين الكلام

(١) والدليل التاريخي على أن الكتابة كانت عزيزة بل شحيحة في العرب ما تجده في نقوش العرب القليلة قبل الإسلام وبعد ظهور الإسلام وكيف كان الكاتب يذكر اسمه ولو كتب سطراً واحداً بقوله (وكتب وكتبها وكتب هذا)، بل تجد في النقوش ما اقتصر على (كتب فلان سنة كذا) فقط، وهو كما جاء في نقش ينبع، وجاء فيه (كتب سلمة سنة ثلاث وعشرين) - انظر الملحق - فأي تعظيم للكتابة وقد كانت الأمم تملك مكتبات عظيمة كما كان في الإسكندرية.


الصفحة التالية
Icon