الفصيح؟ وهو الحال الثاني، وهو من قرأ وكتب وقومه موسومين بالأمّية، هل كان سيفهم أنها علامات على بدء السور؟ أو أنها "إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه" (١)، وليس الإتيان هنا بما يدانيه بالكتابة، بل بمجرد النظم، وهل مثل هذا التحدي يأتي بهجاء الحروف؟ أم أن مثل هذا التحدي جاء صريحاً في الكثير من آيات التحدي كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) البقرة﴾ " ﴿شُهَدَاءَكُمْ﴾ أعوانكم أي: قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك، وقال مجاهد: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ قال: ناس يشهدون به يعني: حكام الفصحاء" (٢)، فالحاصل إذن أنهم فهموا مغزاها، وإن لم يعلموا ما ستؤول إليه هذه الحروف، والعلم بالشيء فرع عن تصوره، وعلمها وتأويلها (أي الحروف) آت بعد إتباع قائلها وتسطير ما يقول، ليتم بذلك الكتاب الموعود. فعلموا جميعاً أن فيها خيراً إن انتشر دين الإسلام، فهي من حروف لغتهم، وسيكون هذا الكتاب الموعود أول كتاب بحروف عربية على لسانهم، فهل يستقيم أن ينكروها وينكروا لفظها، وهي تدعوا للخط بحرف العرب ولسانهم. لذلك قال عتبة لأهل قريش: "خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد النّاس به"، هذا وإن جاء القرآن بمدح اللغة العربية ورفع

(١) البيضاوي (٨٦/ ١) تفسير سورة البقرة
(٢) ابن كثير (١٩٩/ ١) تفسير سورة البقرة


الصفحة التالية
Icon