شأن اللسان العربي في مواضع كثيرة، ولكنها (أي الحروف) صريحة بأن ذلك الكتاب الموعود، والمرسل للناس كافة ولجميع الأمم سيكون بحروف عربية على لسانهم، قال ابن الرومية (١):

كذا قضى الله للأقلام مذْ بُرِيَتْ أن السيوف لها مذ أُرْهِفَت خَدَمُ
وقد قيل "الخط لليد لسان، وللخَلَدِ تَرجمان، فرداءَته زَمَانة الأدب، وجودته تبلغ بصاحبه شرائف الرتب، وفيه المرافق العظام التي مَنّ الله بها على عباده فقال جلّ ثناؤه: ﴿وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَم﴾ " (٢)
ولكن قد علمنا بأن المشركين كانوا يجحدون بآيات الله البينة بعد إقامة الحجة عليهم، فأين تعنّتهم؟ وما هو سبب سكوت الصحابة عنها؟ حتى إن علموا أن تأويلها لا يكون إلا بكتابتها على ما فيها من دلائل للكتابة، وقد علمنا أن الأمر بالقراءة كان في أول آي التنزيل بقوله تعالى (إقرأ) ولم يأت الأمر بالكتابة ظاهراً، وأتى بذكر هذه الحروف وما بعدها مباشرة من ذكرٍ للكتاب وسطر للكتب. (٣) ونعلم أنّه نزل من هذه الحروف في الزهراوين (البقرة وآل عمران) وهما مدنيتان، لتكتمل الرسالة وتمنع الاعتقاد بأنها كانت للرد على المشركين فقط، بل فيها علم الكتابة المقرون بالقرآن، ونعلم أن في هذا دليلاً على إعجاز الله للخلق ببقاء معجزة نبيه - ﷺ -
(١) نهاية الإرب في فنون العرب للنويري (٧/ ٢٤) والمزهر للسيوطي ج٢ ص٣٥٢
(٢) المزهر للسيوطي ج٢ ص٣٥١، وعزا الكلام لصاحب كناب زاد المسافر.
(٣) للتأصيل أقول: لقد كتبت هذه الكلمات بعد تفصيلي في الصحيح والضعيف من روايات أهل التفسير عن ابن عباس، وقد كنت تيقنت أنها جميعاً ليست منه رضي الله عنه، وأنها جميعاً من تشتيت الروايات الضعيفة وحواشي الكاتبين، وبعد كتابتي لما في الحروف من تأويل بحسب الاستقراء في واقع المشركين والتدبر في كلام الله، وقعت في حيرة لا يعلمها إلا الله، فقد رجعت للروايات فوجدت بعضاً مما أقول موزعاً فيها بحسب الروايات، فعلمت أن الروايات قد أفسدت المضمون وأخرجته عن حجيته، فكل كلمة خرجت بسند، وقطّعت الكلام بحسب فهم الكتبة والرواة، وذلك من حبهم لتلقي المعلومة السريعة، أو أنهم كتبوا بعض الكلام ليتذكروه، فوصلنا المكتوب وضاع المضمون.


الصفحة التالية
Icon