والجواب هو: إنها حملت في طياتها دلالات إعجاز عجيبة، كانت كالقواعد المتينة لحفظ القرآن من التحريف، وهذه الدلالات تعلقت بذكر الحروف على هذا الوجه، وكيفية ورودها على هذه الهيئة، وهذه الدلالات تتفق بنسق عجيب مع الغاية والقصد من ذكرها، باعتبارها الأحكام الثابتة بدلالة النص، وهي الثابتة "بمعنى النظم لغة لا استنباطاً بالرأي، لأن للنظم صورة معلومة ومعنى هو المقصود به" (١)، وهذه الدلالات تتفق مع إشارات الإعجاز المذكورة سابقاً، من غير قياس على ما يزيد عن كتابة وهجاء الحروف في اللغة العربية، ولا أقصد بالإعجاز هنا أنه كالإنبهار من عظيم المعاني، كما يتخيلها البعض في هذا الزمان، بل الإعجاز هنا على أصله، وهو نقيض الحزم وعدم القدرة والضعف (٢)، فهذه الحروف قد أعجزت متبعيها على مخالفة ما فيها من دلالات، وكانت بمثابة الأسس والقواعد لتنظيم الكتابة، وإن نظرنا للأسلوب العلمي في العصر الحديث لكتابة البحوث والمراجع العلمية، نجد المؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث المتطورة تضع أسساً وقواعد للكتابة، لما تراه من حق لها في تنظيم الكتب المنسوبة إليها، ولضمان جودتها المرتبطة بسمعة المؤسسة، وأي باحث مهما علا شأنه محكوم بهذه القواعد المنصوص عليها من أعلى جهة رقابية في المؤسسة، وفهم دلالات الحروف المقطّعة في فواتح السور يبدأ من هذه النقطة، أي أن نعتبرها تأصيل وتنظيم لكتابة القرآن الكريم بالسطر، وذلك لأهمية كتابته وضرورة تبليغه باللفظ والكتابة معاً، قبل اعتبار ما جاء فيها من إعجاز في مضمون ذكرها.

(١) أصول السرخسي، ج١ ص٢٤١
(٢) كما في اللسان ومقاييس اللغة والصحاح في اللغة


الصفحة التالية
Icon