ذلك من الآيات.... " (١) ودلل عليه الباقلاني في إعجاز القرآن وقال بأن سياقها "مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على معجزته" (٢)، وحجة القرآن قائمة بنظمه ولغته، وبما أن القلم أحد اللسانين، فالإعجاز في القرآن حاصل بكل محتواه، "والكتاب مصدر، وهو بمعنى المكتوب." (٣)
الوجه الرابع: إنّ الاتفاق حاصل على أنها حروف، وقد بينها الرسول - ﷺ - بقوله "ألف حرف ولام حرف وميم حرف"، وكما تقدم في بيان الحديث أن الظاهر منه هو تفسير الحروف بنفسها، ثم الدلالة على مسميات الحروف (وهي الحروف الكتابية)، إذ لو لم تكن الدلالة عليها لكان في الألف وحدها خمسون حسنة، وهذا مناف للحديث، كذلك لم يقل أحد بأنها كلمات لإجماع الأمة على لفظها كحروف، والحرف في أصله اللغوي هو الحد والطرف والجانب، "فسميت حروف الكلام حروفاً لأنها طرف الكلام وحَدُّهُ ومنتهاه، إذ كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم ومنتهاهُ حَدُّه وحرفه القائم بشفتيه ولسانه ولهذا قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) البلد﴾ فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا. ثم إذا كتب الكلام في المصحف سموا ذلك حرفاً فيراد بالحرف الشكل المخصوص، ولكلامه شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم ويراد به المادة ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه" (٤)، فمطلق اللفظ بالحروف يقصد به الحروف الكتابية وليس الصوتية، ثم يدل اللفظ علي تطابقهما، وهو ما أثبته علم اللغات في أصل الحروف وبداية استعمالها، ولذلك كانت العرب تقول: لم ينطق ببنت شفة ولم أسمع منه شيئاً، ولم يقولوا لم ينطق بحرف، فالحرف عندهم كان كلمة مبهمة إن كانت وحدها ولا بد من إضافتها لشيء، فتجد من الصحابة بعد نزول القرآن من يقول: لم أسمع منه حرفاً من القرآن، كما يقولون أيضاً: يقرأ القرآن على حرف قريش، لأنها إن أضيفت للقرآن كانت للتعريف والدلالة على قراءة الحرف المكتوب، وإن أضيفت لقبيلة كانت تدل على اللفظ الخاص بلهجة القبيلة.
الوجه الخامس: إنّ الحروف كُتبت على صورة المسميات وليس على صورة أسمائها كما في اللفظ، هذا وإن كان في لفظ بعضها إشكال عند بعض الناس من غير العارفين باللغة، فقالوا لم قلنا طا يا ولم نقل طاء ياء كما في (طه، يس) وهي أسماؤها، فنقول فيها همزة مخففة، وهذا "هو التخفيف بإزالة الهمزة لأجل السكت." (٥) فكتابتها إذن على هذه الهيئة مما اتفق عليه الجميع. وأي قارئ في علم اللغات يعلم بأن الكتابة ابتدأت برسم الأشياء للدلالة على أسمائها، كما هو ظاهر في رسوم القدماء على جدران الكهوف من حيوانات ومعدات ورحلات للصيد، ومن ثم تطورت برسم الأشياء للدلالة على الكلمات أو الألفاظ، كما هو الحال في الكتابة التصويرية، فيرسمون مربعاً للدلالة على البيت مثلاً أو أفعى للدلالة على الشر، وبعدها تطورت لرسم الرموز الدالة على الألفاظ، كما كان عند البابليين باستعمال الرسم المسماري الأول، ثم تطورت باختزال الكلمات لرسم الرموز بأطراف الأقلام للدلالة على الحروف الصوتية الخالصة ومواقع النطق في الفم، أو للإشارة على اللفظ المجرد، كما في الحروف المسمارية المتطورة عند البابليين، وهو الظاهر في حروف المصريين القدماء، فيرسمون البوم دلالة
(٢) إعجاز القرآن ص١٢
(٣) البغوي (٥٩/ ١)
(٤) مجموع الرسائل والمسائل لابن تيمية، ج٣ ص٨٥
(٥) ابن عاشور (٦١/ ١٦) تفسير سورة مريم، وفصّل القول فيها عند تفسير سورة يونس (٨٠/ ١١).