النبطية، فأقدم نص جمع بين الحروف الأبجدية كان محتوياً على اثنين وعشرين حرفاً كتابياً، منها خمسة عشر حرفاً مختلفاً فقط (١)، وتمثل بمجملها الحروف الصوتية الثمانية والعشرين، بينما نجد اليوم سبعة عشر حرفاً مختلفاً إن ألغينا التنقيط، وهذا الاختلاف حاصل للفرض بأن الكتابة العربية أصلها من أبجدية وليست من حروف كتابية كما هو الأصل، والحقيقة أن الأبجدية العربية قد وضعت بعد الإسلام، فصارت تماثل غيرها كالحميرية، ولبيان الفكرة نعود للنقوش العربية في صدر الإسلام وما قبل الإسلام، فنجد الحروف في كتابتها خمسة عشر حرفاً لا سبعة عشر، لأن (د ذ ر ز) كانت تكتب بحرف كتابي مبهم واحد، كما هو الحال في غيرها من الحروف المتشابه، وعليه يكون الأصل فيها واحد (٢)، وبالرجوع لحروف الفواتح نجدها أربعة عشر حرفاً، ومع الواو تكون خمسة عشر، والواو ذكرت مباشرة بعدها في بعض الأحيان وأفادت القسم أو العطف، ولا أقول إنها من ذات الحروف بل أقول بأن ذكرها بعدها أغنى عن ذكرها فيما بينها، ولم تذكر بينها لعدة أسباب: أولها أن الواو من أكثر الحروف حملاً للمعاني (٣)، والثاني أن الواو من الحروف المفصولة عما بعدها وتكتب تحت السطر في كل أحوالها (ر ز د ذ و)، وقد ذكرت الراء عوضاً عنها جميعاً، والثالث أن الواو هو الحرف الوحيد من ضمن حروف العلة الذي يكتب بلا لفظ، كما في "عمرو" أو كما كانت تكتب "سعد" في العصر الجاهلي "سعدو"، هذا هو الدليل التاريخي بما جاء به علم الآثار، وما يتفق مع الأصل اللغوي المطابق، وهو اتفاق العلماء على ما قاله الباقلاني بأنها تشتمل على أنصاف صفات الحروف، وفصّله الزمخشري بقوله: "بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف. ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون... فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته." (٤) وهي إشارة على أن الحروف الكتابية كانت تماثل أنصاف حروف الصوت، وتدل عليها كلها بتغيير نبرة الصوت، وإن كانوا استدلوا بهذا القول على ما جاء فيها من إعجاز
(٢) انظر الملحق نقوش ما قبل الإسلام نقش النمارة ٣٢٨م، ونقش أم الجمال الثاني (٦٠٠ م تقريبي) كتبت بذات الحرف، ونقش حران اللحاه ٥٦٨م بتمييز بسيط، وملحق نقوش ما بعد الإسلام وأشهرها نقش السد المبني بأمر معاوية، ٦٧٨م تكتب بشبه كبير.
(٣) تأتي الواو لمطلق الجمع وللاستئناف وللحال وللمعية وللقسم - الموجز في قواعد اللغة العربية ص ٣٨٩
(٤) أصل الفكرة والكلام للباقلاني وما أورده الزمخشري في الكشاف (٢٩/ ١) كانت فيه الأسبقية على تسميتها "أنصاف أجناس الحروف" فقط، وهو قول بدعي، لم يتنبه إليه أحد، والزمخشري إمام المعتزلة في زمنه، وكان يرى بأن أجناس الحروف مخلوقة، وهو قول ساقط، فأجناسها غير معلومة وليست بمخلوقه، وصفاتها وكتابتها ومخارجها وعددها عند البشر معلومة مخلوقة، أما أول من قال بأن صفات الحروف هي أجناس لها فهو محمد بن الحسن بن دريد (ت٣٢١هـ) وساقه في كتاب الجمهرة ضمن كلامه عن بناء الكلمات في نهاية كتاب الجمهرة ج٣ ص٥١٣ طبعة حيدر أباد وج٣ص١٣٣٨ طبعة دار العلم، وابن دريد شيخ الأدب كما قال عنه الذهبي، إلا أن العلّامة أبو منصور الأزهري اللغوي (ت ٣٧٠ هـ) قال في مقدمة كتابه الفريد "تهذيب اللغة" (٢٧/ ١): وممّن ألَّف في عصرنا الكتبَ فوُسمَ بافتعال العربية وتوليد الألفاظ التي ليس لها أصول، وإدخالِ ما ليس من كلام العرب في كلامهم. أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: صاحب كتاب (الجمهرة)، وكتاب (اشتقاق الأسماء)، وكتاب (الملاحن)." وقد نقل ابن حجر هذا الكلام عنه في لسان الميزان (١٣٣/ ٥) عند ترجمة ابن دريد. فالأصح إذن أن نقول أنصاف صفات حروف الهجاء، مع التنبيه أيضاً على أن الزمخشري لم يفصل في الحروف الشديدة والرخوة، وهي ٨ شديدة و ٢٠ رخوة منها ٥ متوسطة وجاء منها في حروف الفواتح ٤ شديدة و ٥ رخوة وجاءت بالمتوسطة كلها أي ٥. وذكر حروف القلقة ولم أوردها في كلامه لأنها من صفات الحروف التي ليس لها ضد، كالصفير والتفشي فلا يلتفت إلى ذكرها، كذلك لم يسند هذا الكلام إلى قائله، وهو في الإعجاز ص٦٦ وقد نقل كثير من المفسرين هذا القول عن الزمخشري من غير تحقق لأصله ومنتهاه كابن كثير والشوكاني والنسفي والزركشي في البرهان، بل لم يتنبه لهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وأورد التسمية واستشهد بها في تفسير الحروف في مجموع الرسائل والمسائل ج٣ ص٨٤، ومجموع الفتاوى ج١٢ ص١١٠، وهو من دافع عن القول بنفي خلق أجناس الحروف، كما في مجموع الفتاوى ج١٢ ص١١٠.