بقوله: "والصواب من القول في ذلك عندي، القول الذي قاله قتادة، وأن قوله (بَلْ) لما دلّت على التكذيب وحلَّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب، إذ عرف المعنى، فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم في عزّة وشقاق." (١) وعليه فهل نُخرج الحروف من هذا المعنى إذا قلنا "الله أعلم بمرادها"؟ أقول نعم، والأولى بنا ردها إلى أصلها كما ذكرْت، ونقول أقسم الله بهذه الحروف، وأقسم بالكتاب العظيم وأقسم بالذكر الحكيم، فهذا هو سياق النظم. وقد علمنا ما لذكر هذه الحروف من دلالات عظيمة، وعلمنا بأنها هي أصل الكلمات، وأسماء الله من هذه الكلمات، وتلك الحروف والكلمات هي أساس النظم في اللغة المختارة لحفظ التنزيل الحكيم بكتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون، لا كغيره من الكتب، فتكون بحق موطن القسم الإلهي، ورغم أن هذا من الأقوال المشهورة في تأويل الحروف إلا أن تعميم التأويل على كل الفواتح لا يستقيم، ولكنه هنا هو الأصل، ولا أظن أحداً ينكر هذا القول أو يرده بعد البيان فيها، ولكن هذا ليس القصد، بل القصد تثبيت المعاني لهذه الحروف، ولن نصل للغاية في التأويل وبيان النظم إلا بالوقوف على كل المعاني المترابطة، واتباع العلماء في أسلوب الإيضاح، وهو وضع الكلام في معناه، وصياغة الكلام بنظم البشر لإيصال الفكرة مهما كان تأويل هذا الحرف في رأيهم، وذلك بحسب أصول اللغة وما فيها من إلزامٍ للكلام وسردٍ للمعاني كما يفعل أهل البلاغة، وذلك أيضاً تصديقاً لقول الله تعالى ﴿جعلناه قرآناً عربياً﴾، وفي بيان التصريف لأوجه تفسير حرف الصاد وما يتبعه يقول الإمام الألوسي: "وهو على بعض هذه الأوجه لا حظ له من الإعراب، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسماً به ومفعولاً لمضمر وخبر مبتدأ محذوف، وعلى بعضها يتعين كونه مقسماً به، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك، وبالجملة إن لم يعتبر مقسماً به فالواو في قوله سبحانه: ﴿ص والقرءان ذِى﴾ للقسم وإن اعتبر مقسماً به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسماً منصوباً على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله و ﴿*بص﴾ السورة أو بالعكس أو أريد ﴿*بص﴾ البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو السورة، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف وضعف جعل الواو للقسم أيضاً بناءً على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف" (٢)، ويقول الطبري: "وكان بعض أهل العربية يقول: (ص) في معناها كقولك: وجب والله، نزل والله، وحق والله، وهي جواب لقوله (والقرآن) كما تقول: حقاً والله، نزل والله." (٣) ولا ننسى أن بعضاً من حروف الفواتح واثنتين من المفردة منها اعتبرت أسماء للسور وهي: (ص، ق) وعليها إجماع الصحابة والمسلمين، فكانت أسماء لهذه السور لأنها تميزت بها، ولم تُسمّ بها سورة القلم وفيها (ن)، وقد تكلم أهل العربية بجواز التسمية بحرف أو حرفين كسيبويه ومن نقل عنه ودرس على يديه، أما أهل البلاغة فيقول إمام البلاغة الزمخشري: "قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّي والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّي عليه، كأنه قال: ﴿والقرءان ذِى الذكر﴾ إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون ﴿ص﴾ خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه ص، يعني: هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور
(٢) الألوسي (١٦٢/ ٢٣) تفسير سورة ص
(٣) الطبري (١٣٩/ ٢١) تفسير سورة ص