وهنا قد يسأل سائل، إن كان في تبديلها بكلمات أمر مستحيل لاختلال النظم، فكيف بمن يستبدل الحروف بحروف مثلها، فيضع (ص) مكان (ن) أو يضع (الم) بدل (الر) فلن يكون هناك فرق في النظم، وهذا صحيح، ولكن النظم البليغ بشكل عام لا يقتصر على تبديل الكلمات بحسب تسلسل الأفكار، ونعلم أن مما تفرد به القرآن عن سواه في أساليب الإعجاز كان بتمييز الكلمات بما لا يليق بسواها في ذات الجملة، مع إمكانية تغييرها بما يشابهها، وكذلك في ربط الجمل والآيات بنسق بليغ لم يكن له مثيل، مع إمكانية ربط بعضها بغيره من مواضع شتى في القرآن، وبالنهاية ترتيب السور كلٌّ في مواضيع مفصلة وكلٌّ بحسب الدلالة، مع إمكانية سردها من غير ترتيب، لذلك جاء تمييز الحروف كتمييز الكلمات، وهذا من أسرار النظم ومما تعهد الله بحفظه وبيانه للناس. ومن تمييز الحروف أن جاءت بنسق أوحد في الذكر والكتابة، وقد يجري فيها كل برأيه، "أما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر" (١)، وهذا لم يكن إلا لدلالة ولسبب عظيم.
وقد يقول قائل، نعم ذكرها وتكرارها في تسع وعشرين سورة تمثل ربع السور عدداً يقتضي اتحاد المراد بها، ولكن هذه الحروف جاءت بشكل عشوائي، حتى لو كان فيها معاني وإشارات ودلالات، فقد أخذت صفة العشوائية في مضمونها، قلت هذا صحيح بشرط: إن جاءت بغير نمط، ولم تحكمها دلالة مباشرة على شيء بذاتها ومضمونها، وهذا هو المستحيل. لذلك سأبين بعض الدلالات على ذكر الحروف بهذا النسق لمعرفة الفرق بين ذكرها على هذا النسق في مضمونها، وغيره من الخيارات المطروحة في ذكر الحروف المكتوبة لبيان هذه الدلالات، وذلك من عدة وجوه:

(١) ابن عاشور (٦١/ ١٦) تفسير سورة مريم


الصفحة التالية
Icon