في علم الغيب مما يلزم الإنسان معرفته من قضاء وقدر وبعث ونشور، وفيه تشريع شامل للدين والدنيا، جمع فيه العقائد السليمة والأخلاق الحميدة وعلاقتنا بالله والناس بجميع أجناسهم وأديانهم وطوائفهم لتكتمل المنظومة الاجتماعية، ونظم العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الناس، وركز فيه على تزكية النفوس وصلاحها، وفيه تشريع العبادات المطلوبة من خالق الكون، كل هذا في كتاب واحد، فهل من كتاب أو كاتب يحتمل هذا كله؟ هذا بحد ذاته إعجاز، ولكنه لم يقف عند هذا، بل تعداه بحقيقة عجيبة، وهي أن القارئ الأمي لهذا الكتاب العظيم تلا هذا الكتاب بلغة قوم لم يكونوا أميين فقط، بل لم يكن فيهم من كتاب قبل هذا الكتاب، والأمم من حولهم كانوا من أهل الكتب والعلوم، ومن المعلوم أن نتاج المعرفة للحضارات والأمم يكون في الكتب، ويكون في مجال أو أكثر من مجالات المعرفة وليس كلها، ويأتي في النهاية كنتاج، وهذا الكتاب كان البداية لا النتاج، وكان شاملاً كاملاً ليس فيه نقص كغيره من الكتب، وهذه قمة الإعجاز فوق الإعجاز. كما في قوله تعالى ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) يونس﴾ وتحداهم بأن يأتوا بمثله كما تحدى الأمم كلها وما تتابع لهم من حضارات، ولو أخذت كل حضارة عصارة المعرفة من الحضارة التي قبلها، وتشاركت في ذلك مع أمم الجن والشياطين، وجمعوا ما تحصّل من تتابع المعرفة، لما أخرجوا مثل هذا الكتاب ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) الاسراء﴾ ولم يقف الإعجاز عند هذا الحد بل تعداه إلى ما بعد القمة، بأن حفظ هذا الكتاب لغة العرب وحروفهم، وحفظ تصريف اللغة وإعراب الكلمات فيها، وألفاظ الحروف بصفاتها ومخارجها، ليس كغيرها من اللغات ذوات الكتب قبله، فكل ما كتب في لغات الأمم لم يكن سبباً لحفظ لغتهم من الانحطاط وضياع التصريف فيها، ولكن القرآن فعل هذا


الصفحة التالية
Icon