وهو أول كتاب عربي، وبداية لحضارة عظيمة. وما ذلك إلا راية الإعجاز فوق قمة الإعجاز للبشر جميعاً. وهنا يظهر السبب في نعت الرسول - ﷺ - من قبل المشركين بالجنون، فلو خرج عليهم أو على سواهم في أي زمان ومكان إلى وقتنا هذا، من يدعي بأنه سيغير العالم وسيحتل مراكز القوة في العالم من دول عظمى وحضارات، وسيصلح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم، فماذا سيقول الناس عنه غير أنّه مجنون؟ بغض النظر عن الكتاب الذي وضع فيه أفكاره، وهو الواقع فيما حصل لكل من ادعى القدرة على هذه الإصلاحات أو صرّح بهذه الطموحات، فكيف بمن جمعها كلها؟ ولكن الوضع هنا مخالف، فليس هو من ادعى، بل هذا ما أنزل الله من فوق سبع سماوات، وجعله دُسْتُورًا وَشَرْعًا ودِيْناً ومنهجا للحياة، ولكن المشركين أنكروا الرسالة وأنزلوا رسول الله - ﷺ - منزلة المدعين من البشر فقالوا (مجنون) فخابوا وخسروا إذ تحقق الأمر وقد قال الله تعالى لهم ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) النحل﴾.
وهذا الكتاب العظيم وما جاء فيه من نور ساطع ونظم محكم وتشريع شامل، أنزله الله منجماً على فترات، ولم ينزل دفعة واحدة ليجمع بين الإعجاز في مجمل القرآن والإعجاز في تفريقه، فكل ما ذكرت سابقاً من ذكر أنواع المعرفة وأنه أول كتاب وأنه حفظ اللغة هو من إعجاز مجمله، أما أنواع الإعجاز في تفريقه الذي لا حصر لها فمنها أنّه جمع بين الاثنين، فكان معجزاً بمجمله بالنظم والمعنى، وجاء معجزاً بما يحمل من ردود على ما يقول الناس فيه بحسب النظم من غير إخلال بالمعنى، وهذا دليل قاطع على أن من قاله يعلم الغيب ويعلم ما سيقول الناس وماذا سيسألون، ودليل على أنه نزل وكان مكتوباً قبل القول وقبل السؤال، "ولولا نزوله متفرقاً: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه. إذ لو نزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يلبس الحق بالباطل وينفس عليهم أمر الإعجاز.


الصفحة التالية
Icon