ويهون في أنفسهم من الجملة بعض ما لا يهون من التفصيل، لأنهم قوم لا يقرءون ولا يتدارسون" (١)، كل هذا الإعجاز قد مثل الخطوط العريضة في رسم راية القرآن، ومن ثم أتت الحروف المقطّعة في بداية السور تلفظ بأسمائها، وكأنها بداية لمحو أمية العرب، وظاهرها بسيط إن حملناها على أصل معناها، فيبلغها الرسول - ﷺ - كما سمعها رداً من الله على شبهة عظيمة تشكك في قدرة هذه اللغة على حمل هذا الكتاب ونشره بين البشر قياساً على واقع الجهل المستفحل في القوم، فأتت على لسان النبي الأمي الذي لا يعرف من علم الكتابة إلا منطوق هذه الحروف ومقاصدها، فبمجرد أن يسمعها أصحاب الشبهة ومن كانوا يخبئون الدفينة الخبيثة لنقض معجزة الرسول - ﷺ -، ستكون عليهم عمى، وسيعلمون أن الله متم نوره ولو كره الكافرون. ولكن ما هو موقف النبي - ﷺ - منها وهو يعلم أنها جاءت للرد على الشك وفضح شبهة دفينة، فعلم معناها ومقصدها ولكنه لا يعرف علمها، ولا يعرف الفرق بينها وبين غيرها من الحروف، ولا يعلم ما بها من دلائل وموانع في علم الكتابة، ويعلم إن السامع قد يظن بها نقصاً لمخالفتها مجمل الكتاب من ذكر المعارف والمعاني والردود، فقد جاءت بما هو أبسط الكلام وأبسط المعاني على ظاهرها، (هذه حا ميم، بداية التعليم) أفي كتاب الله ما يبين لنا موقف النبي - ﷺ - منها؟ أقول نعم، وقد جاء بعد ذوات الحرف وبعد البعض من ذوات الحرفين من السور وبعد الحواميم، في أول سورة هود المبتدئة بالثلاثة حروف (الر) بقوله تعالى ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)﴾ وهذه الآية قد حيرت علماء التفسير، بل كان منهم من آتى على تفسيرها بعد ذكر الآيات بعدها ومر عليها مرور الكرام، خوفاً من

(١) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي، ص٢٦


الصفحة التالية
Icon