يا إنسان بالحبشية، (١) و (طه) يا رجل بالنبطية، (٢) أو بالسريانية، (٣) فهذه آثار موضوعة وهالكة، وابن عباس بريء منها، وإن كانت من أقوال قتادة وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك، وهو قول مرجوح، والوجه الصحيح من هذا الرأي بعيد عن التفسير، وسآتي على تفصيله لاحقاً، ومن هؤلاء أيضاً من لم يسمع من ابن عباس أصلاً، وذاع صيته فنسبت أقواله لابن عباس.
وعليه فالقاعدة هنا، حدّث المفسرون عن القرون الفضلى ولا حرج عليهم، فالحجة ليست فيما نقلوه لأن المفسرين "قد احتجوا في التفسير بقوم لم يحتجوا بهم في مسند الأحاديث المتعلقة بالأحكام وذلك لسوء حفظهم الحديث وشغلهم بالتفسير" (٤)، والحجة في صريح القرآن وما صح من السنة فيما نقلوه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - ﷺ -، والتأويل لا يصح إلا ضمن الضوابط المنصوص عليها في أصول التفسير، وأهمها ألّا يضرب التأويل كلام الله بعضه ببعض، أو بكلام رسوله - ﷺ -، وأن يوافق ما بيّنه لنا أهل العربية من أصول، وألّا يخالف ما هو حقيقة دل عليها العقل بما لا يترك مجالاً للشك لقوله تعالى (أفلا تعقلون)، وألّا نحمل كلمات الله على شيء مظنون سواء في كتب المفسرين أو في أي علم من العلوم.
المسبب الثاني: وهو اقتصار علم أسباب النزول على الآثار والتساهل فيها، وما أورثه حصر هذا العلم في كتب عنيت بذكر أسباب النزول من بُعْدٍ عن تدبر القرآن، وقد اعتبرها بعض العلماء أقرب الطرق لفهم الآيات حتى قالوا فيها: "هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في

(١) حديث موضوع رواه ابن جرير (٤٨٨/ ٢٠) عن محمد بن حميد الرازي، وابن حميد "كذبه أبو زرعة، وقال فضلك الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث، ولا أحدث عنه بحرف، وقال صالح جزرة: كنا نتهم ابن حميد في كل شيء يحدثنا، ما رأيت أجرأ على الله منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضه على بعض وقال النسائي: ليس بثقة." (من حاشية كتاب المجروحين لابن حبان ج٢ ص٣٠٣ للمحقق محمود إبراهيم زايد). قلت: ومن وثقه كالإمام أحمد فتوثيقه قبل أن يُعرف منه الكذب ويشتهر بالوضع. ورواية (طه) "يا محمد بالحبشية" عند الحاكم (٤٠٩/ ٢) بسند منقطع، بين عمرو بن طلحة القناد وعمر بن أبي زائدة، وعمرو بن طلحة صدوق، وقد خالف الأصل المروي عن عكرمة بأسانيد صحيحة بالوقف عليه، فحديثه ضعيف ولو كان متصلاً.
(٢) حديث موضوع رواه ابن جرير (٢٦٦/ ١٨) عن محمد بن حُميد الرازي أيضاً، وهو زيادة عند الحارث في مسنده (ص٢٢٥) عن أبي عبد الرحمن الأسود بن شاذان عن شريك، "قال شاذان: ربما قال شريك: طه يا رجل." ووهْم شريك واضح في الرواية من سوء حفظه، وقد رواه شريك من كلام سعيد بن جبير كما في مسند ابن الجعد (ص٣١٨)، وخالف الأصل المروي عن سعيد بالوقف عليه، قال ابن حجر في الفتح (٨/ ٤٣١) (تفسير سورة طه): "وزاد الحارث في مسنده من هذا الوجه فيه ابن عباس." فهو ضعيف، ورواية (يا رجل) عند ابن جرير (٢٦٦/ ١٨) من رواية محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، وهو سند مسلسل بالضعفاء، خلا محمد بن سعد لينه البعض وضعفه البعض، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (٣٢٥/ ٥) عن عطية العوفي، وهو الجد المحدث عن ابن عباس: "ضعيف الحديث"، وقال ابن حبان في الضعفاء كما أورد ابن حجر في تهذيب التهذيب (٢٥٥/ ٢) عن ابنه الحسن بن عطية العوفي: "منكر الحديث، فلا أدري البلية منه، أو من ابنه، أو منهما معا." ورواه الطبراني في الكبير (٤٤١/ ١١) وفي سنده محمد بن معاوية النيسابوري وهو متروك، وعند البيهقي في دلائل النبوة (١٥٩/ ١) بسند فيه الكلبي وهو كذاب.
(٣) رواه ابن جرير (٢٦٦/ ١٨) من حديث الحسين عن حجاج عن بن جريج، والحسين هو سنيد بن داود ولقبه سُنَيْدٌ المَصِّيْصِيُّ، كذا قال الذهبي وقال: "مَشَّاهُ النَّاسُ، وَحَمَلُوا عَنْهُ، وَمَا هُوَ بِذَاكَ المُتْقِنِ." سير أعلام النبلاء (٦٢٧/ ١٠)، وفي تهذيب التهذيب (٢١٤/ ٤): "قال عبدالله بن أحمد عن أبيه رأيت سنيداً عند حجاج ابن محمد وهو يسمع منه كتاب الجامع لابن جريج أخبرت عن الزهري وأخبرت عن صفوان ابن سليم وغير ذلك قال فجعل سنيد يقول لحجاج يا أبا محمد قل ابن جريج عن الزهري وابن جريج عن صفوان بن سليم قال فكان يقول له هكذا قال ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج وذمه على ذلك قال أبي وبعض تلك الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي عن من أخذها." وابن جريج هو عبد الملك، وهذا مما أخذ عليه، وكان يفسر برأيه أكثر من الإسناد، وأورد المزي في تهذيب الكمال (٣٤٨/ ١٨) "عن أحمد بن حنبل: إذا قال ابن جريج "قال فلان" و "قال فلان" و "أخبرت" جاء بمناكير، وإذا قال: "أخبرني" و "سمعت" فحسبك به." وفي تهذيب التهذيب (٣٥٩/ ٦) وسير أعلام النبلاء (٣٢٩/ ٦): "عن مالك بن أنس قال: كان ابن جريج حاطب ليل." وعليه فالحديث موضوع لا محالة.
(٤) الجامع للخطيب البغدادي - شرح (١٥٨٧) ج٢ ص١٩٤


الصفحة التالية
Icon