بين يدي سورة الأعراف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: فهذا هو اللقاء الأول في هذا المسجد المبارك حول تفسير كلام ربنا جل وعلا، وقبل أن نشرع فيما نود تفسيره نبين أموراً: أولاً: أن هذه التفسيرات هي أشبه بالتأملات والتعليقات على كتاب رب العالمين جل جلاله، والمقصود الأسمى منها: الناحية العلمية، وتبقى الناحية الوعظية فيها تبعاً للناحية العلمية؛ فالمخاطب بهذا الدرس طلبة العلم في المقام الأول، ولهذا فإن التفصيل في بعض القضايا أمر ملح، فليس المقصود بها الوعظ المحض، وإنما المقصود: إيجاد جيل علمي يفقه كلام الرب تبارك وتعالى، ومتى وجد هذا الجيل تبوأ الصدارة في الأمة ونفع الناس؛ لأنه لا يعقل أن يتصدر إنسان لتعليم الناس وهو يجهل ما جاء في الكتاب العظيم من آيات بينات، وعظات بالغات، يهذب الله بها خلقه، ويرشد الله جل وعلا بها عباده، ولقد قال الله جل وعلا في كتابه: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧]، قال العلماء: إن من تفسيرها: أن علم التفسير علم يعان عليه صاحبه، بل هو أجل العلوم، وقد بينا هذا كثيراً في دروس سابقة نشرت، وإنما أجدد التذكير بها، على -أننا ونحن نفسر- سنقف عند آيات معينة نختارها من السورة التي نفسرها، وربما تستغرق السورة الواحدة عدة دروس، وربما تستغرق السورة درساً واحداً بحسب ما فيها، والله جل وعلا ذكر أن كتابه (مثاني) أي: يفصل ما كان فيه إجمال، ويبين ما كان فيه مبهم، ويبسط الله جل وعلا الحديث عن موضوع، ثم يقوله باختصار في سورة أخرى وهكذا، فعلى هذا سنقف عندما نرى أن الوقوف عنده ملزم، وما كان غير مكرر في القرآن فسنقف عنده.
فمثلاً: في (سورة يوسف) لم تتكرر قصة يوسف إلا في سورة واحدة، فلا ينبغي تجاوزها بخلاف غيرها كقصة موسى مثلاً، فقد وردت في عدة سور من القرآن الكريم.
هذه مقدمة يظهر أنه من الواجب التذكير بها، أما السورة التي سنبدأ بها هذه الدروس فهي (سورة الأعراف)، ونبدأ بسورة الأعراف لأننا كنا قد انتهينا إلى سورة الأنعام، فنستهل هنا سورة الأعراف وإن كنت قد بدأت في المدينة قبل أسبوع بتفسير الجزء السابع والعشرين وأنهيناه، والآن نبدأ بسورة الأعراف في هذا المسجد المبارك ونمضي بها إلى ما شاء الله تبارك وتعالى.
وقبل أن نشرع في اختيار الآيات من السورة يجب أن تعلم أنه حتى تفقه القرآن فإنه يجب عليك أن تبدأ به بنظرة كلية، ثم تصغر هذه النظرة حتى تصل إلى الزبدة التي تريدها، وسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية، إلا بضع آيات منها وهي قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [الأعراف: ١٦٣]، فهذه القصة ذكر أنها نزلت في المدينة، أما السورة إجمالاً فهي سورة مكية.
والقرآن المكي له خصائص تختلف عن القرآن المدني؛ لأن القرآن المكي يهتم بقضايا ثلاث: إثبات التوحيد والربوبية والألوهية لله، وذكر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والبعث والنشور وأهوال اليوم الآخر، فهذه هي قضايا القرآن المكي على وجه الإجمال، وتندرج تحتها قضايا أخرى؛ كتذكير الله بنعمه على خلقه، وهذا يندرج في إثبات التوحيد.
أما القرآن المدني، فإن أكثره: تشريع، وأحكام، وفقهيات، كما في البقرة وآل عمران، وحديث عن السير والغزوات التي كانت في أيامه صلوات الله وسلامه عليه في المدينة.
وقد بينا في دروس سابقة أن القرآن المكي والقرآن المدني في تسميتهما هذه خلاف طويل بين العلماء، لكن أرجح الأقوال -إن شاء الله- أن المقصود بالمكي: ما نزل قبل الهجرة.
والمقصود بالمدني: ما نزل بعد الهجرة.
وعلى هذا فقد قلنا مراراً: إن قول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨]، آية مدنية رغم أنها نزلت في جوف الكعبة، والرسول آخذ بمصراعي باب الكعبة، فخرج إلى الناس ونادى بني شيبة وأعطاهم مفتاح الكعبة تنفيذاً للآية، فالآية نزلت في مكة بل في الكعبة لكنها تسمى: آية مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة.
فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية، وهي من أطول سور القرآن المكي، وعدد آيها كما هو معلوم ٢٠٦ آيات.
هذه السورة بدأها الله جل وعلا بإثبات صدق هذا الكتاب وما فيه من خير عظيم، وختمها بقوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦]، فختمها بآية سجدة، وبحسب ترتيب المصحف فآية السجدة في الأعراف جاءت آخر آية في السورة، لكنها من حيث ترتيب المصحف هي أول سجدة في القرآن، وهذا يعني: أن مابين فاتحة السورة وما بين خاتمتها جملة من القضايا منها: خلق آدم عليه الصلاة والسلام أبو البشر، وما ذكر الله جل وعلا فيها من قصته مع إبليس، ثم بعد ذلك خاطب الله جل وعلا بني آدم بصفة أن آدم أبوهم، وناداهم بأربع نداءات: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا﴾ [الأعراف: ٢٦] ﴿يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٢٧] ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١] ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ [الأعراف: ٣٥] إلى آخر الآيات.
ثم إنه جل وعلا فصل ما أجمله في الأنعام، لكن هذا التفصيل ليس على ترتيب النزول، فأنا أتكلم على ترتيب المصحف، فعلى هذا سورة الأعراف جاء فيها ما أجمله الله في الأنعام، فقد ذكر الله في سورة الأنعام الرسل جملة فقال: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٨٣ - ٨٦]، ثم جاء في الأعراف بحسب ترتيب المصحف فبدأ يفصل، فإنه لم يذكر في الأنعام قصة نوح ولا موسى ولا غيرهما، ثم بدأ يفصل في الأعراف، ففصل فيها قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة لوط، وقصة شعيب، وقصة موسى، فهؤلاء ستة من الأنبياء ذكر الله جل وعلا خبرهم تفصيلاً، ثم ذكر الله جل وعلا في السورة بعضاً من آياته الدالة على عظيم خلقه، وأعاد فيها أن أحداً لا يملك نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله تأكيداً للتوحيد.
بعد هذا التصور الكامل عن السورة ننتقل إلى اختيار بعض الآيات المتعلقة بتفسيرها، وأنا قلت: إن المخاطب الأول من تدريسنا طلبة العلم، على أنه ينبغي أن نعلم أن العلم لا يظهر بجلاء إلا إذا اجتمع بعضه إلى بعض، فإذا جمعت أشتات العلم واكتمل لديك مع الإلحاح والتدوين والحفظ وسؤال الله التوفيق كان العلم لديك، تراه في أول أمره صعباً كالبحر لكنه يسير على من يسره الله جل وعلا عليه، كالبناء عندما يريد أن يبنيه صاحبه يراه متوسع الأطراف بعيداً، فلا يرى إلا حديداً وما أشبه ذلك، حتى إذا اكتمل بعضه إلى بعض قام بنياناً، كذلك العلم يعجب لمن تصدر للتدريس أن يعين من يطلب العلم على يديه في فقه العلم، وأنه يعطيه أشتات العلم حتى يجتمع عنده شيئاً فشيئاً، أعاننا الله وإياكم بتوفيق من الله وفضل، والأمر كله مبدؤه ومنتهاه وأوسطه فضل من الله تبارك وتعالى يهبه جل وعلا لمن يشاء.


الصفحة التالية
Icon